لطالما اتسم بعدم الاتساق وقمة التناقض، ذلك النهج السوري تجاه استراتيجية "وحدة الساحات"، والتي تقوم من خلالها جماعات مختلفة تمثل ما يسمى بـ "محور المقاومة" الموالي لإيران بتنسيق عملياتها ضد إسرائيل، وذلك لأن النظام السوري أحجم عن فتح جبهة نشطة عقب الحرب على غزة في السابع من تشرين الأول 2023، وحافظ على موقفه حتى بعد توجيه إسرائيل ضربات قاسية لحزب الله.
بالنسبة للنظام في دمشق، فإن بقاءه يأتي قبل أي شيء آخر، ولهذا أبدى النظام السوري رغبته بتجنب المواجهة مع إسرائيل وسط تصاعد الأخطار، ولكن ونظراً لعلاقات الأسد الوثيقة مع إيران، ووجود حزب الله على الطرف الآخر من الحدود في لبنان، والدور الذي لعبته سوريا بوصفها محوراً لنقل السلاح من إيران إلى ذلك الحزب، فإن الطريق بات أمامه متقلقلاً إلى حد كبير.
النظام يستغل حرب غزة لتعزيز مصالحه
عقب أحداث 7 تشرين الأول، ألفى النظام نفسه وقد تحسن موقفه بعض الشيء، فقد استرجعت سوريا شيئاً من أهميتها المفقودة بعد تحول الشرق الأوسط من جديد إلى بؤرة للأحداث العالمية، إلى جانب الاهتمام الذي أولته روسيا والدول العربية بسوريا مرة أخرى، ولذلك لم تعد استراتيجية "وحدة الساحات" تمثل عنصراً من عناصر السياسة الخارجية السورية، إذ وجدت دمشق في غزة فرصة أخرى لتعزيز مصالحها الخاصة، وذلك عبر استغلال الظروف لتمتين علاقاتها مع الدول، وخاصة العربية منها. كما طمح النظام أيضاً إلى الاستفادة من أي صفقة محتملة قد تشمل غزة، وحزب الله، ولبنان وإيران، وغيرها من العناصر الفاعلة إقليمياً، بيد أن إسرائيل كانت لديها مخططات مختلفة تمام الاختلاف عن كل ذلك.
مع امتداد لظى الحرب لما بعد غزة، ووصولها إلى لبنان، وسط تصعيد للهجمات المباشرة بين إيران وإسرائيل، ألفت سوريا نفسها فجأة قريبة من ساحة النزاع الرئيسية بشكل خطير، ولهذا أحجمت مرة أخرى عن تطبيق استراتيجية "وحدة الجبهات"، وسعت جاهدة لتجنب أي أعمال انتقامية من طرف إسرائيل، فلقد ساعد توسيع البنية التحتية العسكرية لحزب الله في سوريا في عام 2013 نظام الأسد على البقاء إثر الانتفاضة التي قامت عليه في الداخل، بيد أن الحزب أضحى اليوم عرضة للاستهداف، وهذا ما قد يستدعي إسرائيل للتدخل في سوريا.
رسائل واضحة
بالتوازي مع حربها في لبنان، صعّدت إسرائيل غاراتها في سوريا لتشمل أصول إيران وحزب الله، ومستودعات الأسلحة القريبة من قاعدة حميميم الجوية التي يسيطر عليها الروس (فوجهت بذلك رسالة لروسيا)، إلى جانب استهدافها لقصر يعود لماهر الأسد، شقيق رأس النظام والذي يتزعم الفرقة الرابعة مدرعات التي تعتبر من قوات النخبة، ويعتبر هذا الرجل حليفاً مهماً لإيران في دمشق.
هذا وتشير التقارير إلى أن إسرائيل عززت قواتها في مرتفعات الجولان، ونزعت الألغام من بعض المناطق، فيما قد يفسر على أنه استعداد لفتح جبهة جديدة، ويبدو أن هذه التحركات تسببت بعظيم قلق لدى دمشق، لذا وفي الخامس من تشرين الأول الفائت، أصدر الأسد قراراً إدارياً يقضي باستدعاء الضباط إلى الاحتياط وإرسال قوات النخبة إلى إدلب في الشمال، وليس نحو الجولان في الجنوب، ما يعني بأن الفرقة الرابعة مدرعات نأت بنفسها عن حزب الله، كما سحب النظام بعض ميليشياته الموالية له من جبهة الجولان. ومنذ فترة قريبة جداً، قيد النظام حركة حزب الله وصادر أسلحته، وهنا تبدو الرسالة غاية في الوضوح، على الرغم من صعوبة التأكد من حقيقة هذه الأخبار والتقارير.
مشاهد قاتمة
وبعيداً عن أثرها العسكري، فإن أي ضربة إسرائيلية لحزب الله قد تضعف نفوذ النظام السوري في لبنان، أما اقتصادياً، فإن أثر الهجمات الإسرائيلية قد بدأ منذ مدة بتعطيل دور لبنان بوصفه شريان الحياة المالي والتجاري بالنسبة لسوريا. أما على الصعيد الإنساني، فالمشهد قاتم أيضاً، إذ منذ 24 أيلول الماضي، نزح نحو 473 ألف سوري ولبناني من لبنان إلى سوريا، مما شكل عبئاً لا يرغب النظام بتحمله ولا يمكنه ذلك أصلاًَ من دون معونات دولية، ولكن عليه الآن أن يقبل به بحكم الواقع. إذ عند إجراء مقارنة مع ما جرى بعد الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا في عام 2023، فقد جمعت الاستجابة الفورية لسوريا مبلغاً قدره 170 مليون دولار في أقل من شهر، أما خلال أزمة النزوح الحالية، لم تنجح وكالات الأمم المتحدة حتى الآن إلا بجمع مبلغ لم يتجاوز ثمانية ملايين دولار من أصل 135 مليون دولار أضحت سوريا بحاجتها لمجابهة هذه الأزمة.
استعدادات للحرب على جبهة إدلب
تعتبر التهديدات القادمة من إسرائيل من جهة جنوب غربي البلد أكثر التهديدات التي تقض مضجع النظام، لكنها ليست الوحيدة التي يجابهها، وذلك لأن الجبهة مع تركيا في شمال غربي البلد شهدت تطورات خطيرة، إذ عزز الأتراك مواقعهم، وأتوا بتعزيزات كبيرة وأسلحة إلى إدلب وكذلك إلى منطقة درع الفرات. وفي هذه الأثناء، أخذت هيئة تحرير الشام وغيرها من الجماعات المسلحة تحشد قواتها بالقرب من الجبهات في كل من إدلب وحلب.
في الوقت الذي لا يعني كل ذلك بالضرورة بأن الحرب أصبحت وشيكة، فإن ذلك يعكس مدى قلق أنقرة من احتمال أن تفضي أي مواجهة بين إسرائيل وإيران إلى تغيير على الخارطة الجيوسياسية لسوريا، وهذا ما سيضعف النظام السوري على حين غرة، ولذلك لا مناص من الحفاظ على شيء من التوازن بين القوى الفاعلة الأساسية على المستوى الإقليمي والدولي والتي تدخلت في سوريا، ويأتي على رأسها روسيا ثم إيران، فتركيا، فالولايات المتحدة، إلى جانب حلفائهم المحليين، إذ في حال تعرضت إيران وحلفاؤها لضربة قوية من إسرائيل، فإن ذلك من شأنه أن يخرب هذا التوازن. ولهذا السبب تبدو تركيا كمن يعزز مواقعه في شمال غربي سوريا، وهدفها من ذلك ليس فقط التماشي مع الديناميات المتغيرة، بل أيضاً العمل وبشكل سريع على ملء أي فراغ في السلطة قد يظهر جراء ذلك.
صمت غريب في شمال شرقي سوريا
بالمقارنة مع شمال غربي سوريا، هنالك صمت غريب يبديه شمال شرقي سوريا حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وذلك فيما يتصل بالنزاع مع إسرائيل، وهذا لا يقل رعباً وإقلاقاً لدمشق عن غيره، لأن معظم السيناريوهات تفضل الوضع الحالي الذي فرضته "قسد" بدعم من الحماية الأميركية، وفي حال اقتراب النزاع الإسرائيلي مع حزب الله من سوريا، فمن المحتمل بالنسبة لـ"قسد" أن تغتنم ضعف النظام الذي باتت فرصه في استعادة المناطق الغنية بالنفط والتي تخضع لسيطرة قسد بدعم أميركي تتضاءل بشكل مطرد. كما أن الاحتمالات تصب في صالح "قسد" فيما يتصل باستمرار الوجود الأميركي، بما أن فكرة الانسحاب الأميركي الكامل في ظل حروب إسرائيل المستمرة باتت أمراً غير وارد بتاتاً.
أهداف واضحة
إن حالة التناقض الدائمة فيما يتصل بموضوع "وحدة الجبهات" ساعدت النظام على تفادي أي عمل انتقامي مباشر من إسرائيل، لكن ذلك لن يكفي لحماية سوريا من أي أخطار قد تحدث مستقبلاً، إذ بالنسبة لإسرائيل، فإن العودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل أحداث 7 تشرين الأول غير مقبول بالمرة، سواء في غزة أو في لبنان، والأمر ذاته ينطبق على سوريا، فقبل أن يصبح وزيراً للخارجية لدى نتنياهو، حذر "جدعون ساعر" الأسد من أنه في حال استمرت سوريا في كونها الطريق الموصل للإمدادات والأسلحة إلى حزب الله، أو سمحت بأي هجوم على إسرائيل من أراضيها، فإن ذلك سيهدد بقاء نظام الأسد لا محالة.
والآن، بات من الواضح بأن سوريا لا تمثل أي خطر مباشر على إسرائيل، لكنها تركت الباب مفتوحاً أمام تأويل التهديدات الإسرائيلية ضمن سياقين محتملين على الأقل، أولهما: أن سوريا توقعت تفكيك البنية التحتية المحلية لحزب الله، والتي تمد لبنان بالسلاح، فلقد أسس حزب الله شبكة عسكرية في سوريا، تمتد من حضر بالقرب من مرتفعات الجولان، وصولاً إلى الزبداني في جبال القلمون، والقصير التابعة لمحافظة حمص. لذا وفي حال عزمت إسرائيل على إضعاف الإمكانات العسكرية لحزب الله، فإن تفكيك هذه البنية التحتية سيصبح من الضروريات. وثانيهما أن سوريا تريد هي أيضاً أن تكف عن كونها ممراً للأسلحة الإيرانية، وكلا هذين المطلبين يخلقان مصاعب جمة بالنسبة لنظام الأسد، خاصة مع عجز رئيس النظام على تنفيذ القرارات التي اتخذها بهذا الصدد.
واضحة هي الأهداف التي وضعها الأسد لنفسه في خضم النزاع الإسرائيلي مع حزب الله وإيران، وتتمثل بالبقاء في السلطة وتجاوز الأزمة بأقل الخسائر. ويبدو بأن رأس النظام أدرك بأن نهج "وحدة الساحات" ما هو إلا مقامرة تحمل بين طياتها فرصة ضئيلة للنجاح، ولكن حتى يحافظ الأسد على بقائه، عليه أن يستمر في السير على حبل رفيع يشده عدد من الأطراف الفاعلة الإقليمية، وهذا التوازن سيصبح صعباً مع مواصلة إسرائيل لحربها التي قد تقترب من دمشق. وما يقلق الأسد بنسبة أكثر هو بقية الأطراف، أي هيئة تحرير الشام، والمعارضة السورية وتركيا و"قسد"، لأنها قد تحاول أن تستغل مواطن ضعف النظام.
المصدر: Carnegie Endowment