كحال بقية دول العالم، ذكر الدستور السوري الذي وضعه بشار الأسد عام 2012 المحكمة الدستورية العليا، وحدد طرق تشكيلها ومهامها وسلطاتها، لكنّ حملت المواد التي تتعلق بالمحكمة الدستورية العليا خللاً قاتلاً، حالها كحال كثير من مواد الدستور، لكنّ الخلل هنا أكبر وأكثر خطورة، باعتبار أنه من المفترض أن تكون هذه المحكمة الضامن الأعلى للدستور ذاته، والمراقب عليه وعلى قانونية ما يتعلق به، تنفيذاً وتشريعاً.
ذكر دستور الأسد الابن في مادته الحادية والأربعين بعد المئة أنه: "تؤلف المحكمة الدستورية العليا من سبعة أعضاء على الأقل يكون أحدهم رئيساً يسميهم رئيس الجمهورية بمرسوم". وتشير المادة السادسة والأربعون بعد المئة إلى أنه بالإضافة إلى المهام التقليدية التي تقوم بها أي محكمة دستورية، من رقابة مدى توافق القوانين والمراسيم التشريعية واللوائح والأنظمة مع الدستور، تضطلع هذه المحكمة بمهمة "محاكمة رئيس الجمهورية في حالة الخيانة العظمى".
الرئيس هنا، أي في الدستور السوري، جعل أعضاء المحكمة الدستورية العليا مجرد تابعين للسلطة التنفيذية، وينسف استقلالية المحكمة، بجعلهم تابعين للرئيس
الخلل الفاضح فيما يخص المحكمة الدستورية العليا في الدستور السوري، لا يحتاج إلى من يشير إليه بالبنان، فرئيس الجمهورية في سوريا هو الذي يُعيّن ويوظف أعضاء المحكمة التي يمكن أن تحاكمه بحال ارتكب خيانة، وتعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا من قبل رئيس الجمهورية يتناقض مع مبدأ فصل السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويُدمّر المبدأ الأساس الذي من المفترض أن يقوم عليه أي حكم رشيد ديموقراطي لا ديكتاتوري، والذي يصون كل الحقوق والحريات الأساسية، فالرئيس هنا، أي في الدستور السوري، جعل أعضاء المحكمة الدستورية العليا مجرد تابعين للسلطة التنفيذية، وينسف استقلالية المحكمة، بجعلهم تابعين للرئيس الذي تفضّل عليهم باختيارهم لهذه المحكمة. فالمحكمة الدستورية العليا في سوريا يستحيل أن تُحاكم الرئيس، لأنه من منطق الأمور أن لا يحاكم أعضاء المحكمة من عينهم.
وقبل هذا الخلل الفاضح، هناك العديد من نقاط الخلل الكبيرة الأخرى، والتي لا يمكن غض الطرف عنها، فدستور الأسد الابن مثلاً لم يحدد أي مواصفات لأعضاء المحكمة الدستورية العليا، ولم يؤكد على المستوى المهني والأخلاقي والوطني الكبير المفترض أن يتحلى به أعضاء هذه المحكمة، بينما تُشير كل الدساتير الأخرى التي تتضمن محكمة من هذا النوع، إلى أنه يجب أن يكون غالبيتهم من المختصين في القانون، والذين لا تقل خبرتهم عن عشرين سنة، والذين يتحلون بسمعة مهنية رفيعة ومستوى عالٍ من الأخلاق، وغير ذلك من الصفات التي تضمن أن لا يكون بينهم متسلقون أو فاسدون أو ضعيفو خبرة.
كذلك من نقاط الخلل الكبيرة أن الرئيس وحده هو من يعيّن أعضاء المحكمة الدستورية العليا، في تهميش واضح ومباشر لمجلس النواب وللحكومة ولكل أجهزة الدولة الأخرى، ليبقى الرئيس هو المتحكم الوحيد بهم، ليجلبهم حُكماً من بطانته وحاشيته والمتملقين له، بينما تذكر الدساتير الأخرى التي تتضمن محكمة من هذا النوع، إلى أن اختيار أعضاء المحكمة الدستورية يتم اختيارهم في أسوأ الأحوال من قبل عدة هيئات غير متّصلة، أو أن يتوازع اختيارهم مثلاً مجلس النواب والحكومة ومجلس القضاء الأعلى "نموذج تونس"، أو تعينها الهيئة التشريعية "نموذج ألمانيا"، أو مجلس القضاء "نموذج جنوب أفريقيا"، أو أن تتوازع السلطات القضائية والتنفيذية تعيين أعضاء هذه المحكمة "نموذج مصر والعراق"، أو مختلف فروع الحكومة مع منظمات المجتمع المدني "نموذج إيطاليا وتركيا"، ولم يجد الدستور السوري سوى أسوأ النماذج وأكثرها دكتاتورية في تسمية أعضاء المحكمة الدستورية.
أيضاً، تُشير المادة الثالثة والأربعون بعد المئة، إلى أن "تكون مدة العضوية في المحكمة الدستورية العليا أربع سنوات ميلادية قابلة للتجديد"، أي أن التجديد لأعضاء المحكمة العليا يمكن أن يكون لا محدوداً، وهو في كل الأحوال بيد الرئيس، لأن أعضاء المحكمة سيسعون إلى كسب رضا الرئيس، خاصة وأنهم يتمتعون بمزايا مادية ومعنوية لا يتمتع بها غيرهم من القضاة، وسيتفادون إزعاج الرئيس بأي أمر مهما كان صغيراً، أي سيتحولون بطبيعة الأمر إلى موظفين صغار في "مزرعته".
المحكمة الدستورية العليا في سوريا، وعلى عكس ما هو واقعها في الدول الديمقراطية، فهي مؤسسة مسلوبة الإرادة، وتدين بالولاء لشخص واحد، وليست سوى واجهة زائفة للحكام
كذلك، وفق المادة السادسة والأربعين بعد المئة من الدستور، تختص المحكمة الدستورية العليا بـ "إبداء الرأي بناء على طلب من رئيس الجمهورية في دستورية مشروعات القوانين والمراسيم التشريعية وقانونية مشروعات المراسيم"، أي أنه يحق لرئيس الجمهورية أن يقوم بإحالة مشروع القانون أو المراسيم -إن أراد- إلى المحكمة لإبداء الرأي، لكنّ رأيها ليس مُلزماً للرئيس، أي يمكن أن يكون عملها "رفع عتب" ليس إلا.
المحكمة الدستورية العليا في سوريا، وعلى عكس ما هو واقعها في الدول الديمقراطية، فهي مؤسسة مسلوبة الإرادة، وتدين بالولاء لشخص واحد، وليست سوى واجهة زائفة للحكام، وديكوراً يستخدمه الرئيس لتمرير ما يريد من مراسيم وقرارات لا يمكن أن يمررها مجلس النواب، وليس لأعضائها أي قوة، ودون أن يتم تغيير بنود الدستور السوري المتعلقة بهذه الهيئة، فإنه سيبقى "حاميها حراميها" كما تقول الأمثال.