قبل فترة ليست ببعيدة، وتحديدًا في سنة 2019، وفي خيمة وسط لبنان أقيمت ندوة فكرية وثقافية، أشرف عليها "ملتقى التأثير المدني" اجتمع فيها مجموعة من الأصدقاء والمهتمين، وبينهم بعض اللبنانيين الناجين من المعتقلات السورية، ليشاهدوا عرض فيلم "تدمر" على مدار ساعة ونصف، بحضور مخرجه، لقمان سليم، وغياب المشاركة معه في الإخراج، زوجته مونيكا.
ورغم أن الخيمة أعدت بهدف تقديم نشاطات ثقافية وفنية، فإنها بدت مع عرض فيلم "تدمر" كخيمة عزاء، أو على الأقل، أحالتها موضوعة الفيلم إلى ذلك، إذ إن من عايشوا الموت حتى وإن نجَوا منه، يستحقون العزاء بدورهم، وإن كان حضور لقمان سليم، وحديثه عن الفيلم أمام الحضور، قد كنس صبغة العزاء والحزن عن الخيمة، بطاقته وحيويته، والجرأة التي تمتع بها، فإن حضوره حينذاك، لم يزل يشع، ويحول دون إمكانية موته في منجزه، لا سيما أن ذاك الحضور، وتلك الجرأة، كان كعادته، فارسها وسط الأراضي اللبنانية المرتعشة خوفًا من امبراطورية القتل والتصفية.
واستدراكًا يمكن القول: إنه لا الخيمةُ، ولا وموضوعةُ الفيلم، وحدَهما من أوحيَا إلى أجواء العزاء، بل كان العدد القليل للذين اجتمعوا في الخيمة لمشاهدة الفيلم، قد ترك ذلك الانطباع، إذا ما قيست بأعداد الحشود الهائلة التي عادة ما تتجمع لمشاهدة "حسن نصر الله" خارجًا من كهفه، ماثلًا عبر شاشات عرض ضخمة، تنصب في الساحات الكبيرة، ليستمدوا منه أكبر قدر من طاقة الحقد وشراهة القتل، من خلال تلويحات يديه وأصداء عباراته المتشحة بكم هائل من الكراهية، في حين كان لقمان سليم في حديثه المقتضب، وفي فيلمه الطويل، يحاول جاهدًا أن يكنس أسباب الموت عن مشاهديه وأبطال فيلمه، وعنا نحن كذلك، مكتفيًا بأن يرينا كيف يحدّث عن هذا الموت والقتل، عبر تصوير بشاعته، ليغوينا باختيار الجمال بديلًا عنه.
يبقى لقمان سليم حاضرًا بيننا، يمنحنا قدرًا كبيرًا من أنفاس الحياة، حتى وإن قتلوه، فالزمن الفاصل بين اشتغاله مع الضحايا في فيلم "تدمر" وبين تحوله إلى ضحية، زمن قصير
ومن هنا يبقى لقمان سليم حاضرًا بيننا، يمنحنا قدرًا كبيرًا من أنفاس الحياة، حتى وإن قتلوه، فالزمن الفاصل بين اشتغاله مع الضحايا في فيلم "تدمر" وبين تحوله إلى ضحية، زمن قصير، ولا نكاد نشعر أنه زمن يعود للمُضيّ، مما يستدعي رفض التسليم بأنه رحل ولم يعد بيننا.
وكما يفترق مفهوم إحياء الضحايا، عن مفهوم الإمعان في تصفيتهم وقتلهم، فإن طبيعة اللقاء في تلك الخيمة، وتجمع الضحايا لمشاهدة ذواتهم حين كانوا يقتلون ويعذبون، جعلنا نستشعر وكأننا في فيلم "تدمر" أمام مسرح داخل المسرح، أو سينما داخل السينما، أو حياة تنبعث من الموت، فالممثلون الذين كانوا في وقت قريب، أقرب ما يكونوا للأموات، نراهم يولدون من جديد، ليشاهدوا ذاتهم وقد بعثت فيها أنفاس الحياة من جديد.
وكذلك بدا لنا حال المخرج لقمان سليم، ممثلًا وفاعلًا في هذه التحفة الفنية، مع فارق أن نبوءته في إمكانية إحياء الأموات، كانت سابقة لموته. وقد دفع ثمنها روحه، ومع ذلك فقد منحنا لقمان سليم فرصة فريدة من نوعها، لمشاهدة الممثلين وهم يعدون فضاء وإكسسوارات المعتقل الذي سيَدخلون إليه، فعلى مرأى من أبصارنا، راحوا يصنعون أدوات التعذيب، التي سيتم تعذيبهم من خلالها، وهم الذين كانوا قد عذّبوا بمثلها فعليًا في سجن تدمر، وكذلك، وعلى مرأى من أبصارنا، تدربوا على كيفية استخدامها مجددًا على أجسادهم، ليصيغوا عبرها حكايتهم التي جرت أحداثها داخل الزنازين، لنستدرك الآن، متأخرين كعادتنا، أن لقمان سليم كان يَحُوكُ ويَغزِلُ معهم حكايةَ الجرأة في طرح الرأي، وحكاية الجريمة التي أمعنت في تصفية الرأي المخالف لقناعات القتلة، فمن تلك الحكايات، كانت تنبعث ظلالهم الحاقدة، وهم يترصدون فكره المخالف لأفكارهم، حتى إذا ما آن الأوان، أقدموا على اغتياله، لنباغت بحادثة فقدانه، كما باغتتنا اللقطة مع بداية الفيلم، وهي ترصد آلة حفر تشق حفرة في سطح مبنى من الخارج، جارّة بنا إلى حافتها، وسرعان ما نستدرك، أنها لم تكن إلا حفرة السجن، التي قضى فيها المئات من الضحايا والمعتقلين، ولاشك أن تلك الآلة، أوحت إلى معدن السجان، ودلت عليه، حين يعمل سكينه، أو يطلق رصاصه في كيان الضحية، ليسوقها إلى حتفها.
اقرأ ايضاً: اغتيال لقمان سليم.. صوت وطني غرد بلبنان خارج سرب حزب الله
اقرأ أيضاً: لماذا قتل الحزب لقمان سليم؟
ثم سرعان ما تنقلنا الكاميرا إلى داخل الحفرة، لنرى أنفسنا وقد حللنا في أعماقها، وثمة قطع من الحجارة، وذرات من التراب، راحت تتساقط على الأرض، وكأنها تتساقط علينا، لنعايش أحاسيس الضحايا، حين ينهال عليهم التراب وقد رمي بهم، ليدفنوا في الحفر، وهم أحياء ربما، يلي ذلك ظهور لوحة سوداء تغطي كامل مساحة شاشة العرض، تشير بأحرفها البيضاء، إلى أن عشرات الآلاف من اللبنانيين وغيرهم، ممن فقدوا، أو غيبوا، في أثناء الحرب اللبنانية وبعدها، يقبعون في العديد من السجون اللبنانية والسورية، وكان سجن تدمر درة، وتاج هذه السجون، وكان لهذا السواد الطافح من شاشة العرض، والكتابة عليها بحروف بيضاء، قد أوحت إلينا بغطاء النعش، وكأنه سيُطبق علينا في القريب العاجل، إن لم نَحُلْ دون تمزيقه، والتحرر من الحفرة التي نحن بها، لنستدرك مؤخرًا، أنها ما هي إلا نبوءة لقمان سليم، حين كان يتحسس مصيره. غير أن الخوف لم يخرسه.
وعلى لوحة سوداء تلتها، كتبت عبارات تشير إلى المعاناة التي تكبدها السجناء، للغوص مجددًا في تجربة الاعتقال، وإحياء تذكرها من جديد، ليظهر بعد ذلك رجال يحملون نافذة حديدية مستطيلة، كبيرة الحجم، يفهم أنها ستشكل قضبان السجن، التي عادة ما يرزح خلفها السجين، لننتقل بعدها إلى فضاء الخيمة، حيث الحضور يشاهدون ما تعرضه الشاشة، ومن ضمنهم كان بعض من الناجين، الذين سنراهم في أحداث الفيلم، ثم يحدث قطع عن الخيمة، ونعود مجددًا إلى الأحداث التمهيدية للفيلم، وثمة عمال منكبّون على بناء وإعداد سجنهم، وتهيئة الإكسسوارات التي سيحتاجون إليها، لإعادة استحضار الجحيم الذي قضوا فيه سنين طويلة من حياتهم، ولكنّه تمثيلٌ هذه المرة.
المفارقة أن ثلاثة من هؤلاء الناجين، والذين سيظهرون في عدة مشاهد من الفيلم، كانوا يتعاونون على صناعة السياط من قطعة إسفنجية، لنستشف من هذا المشهد، كم كانت مثل هذه التجربة تمنحهم إحساسًا كبيرًا بالنصر على الجلاد، والتحرر من جحيم السجن الذي غدوا فيه الآن متحكمين بأقدارهم ومصائرهم، إلى حد أنهم أرادوا أن يطمئنوا المشاهد منذ البداية، إلى عدم فعالية هذا السوط الذي صنعوه، فيدخلون في لعبة تجريبه على أجساد بعضهم، وهم يضحكون كالأطفال. لكنهم مع بدء أحداث ومرويات الفيلم يدخلون في أداء سردي يأسر المشاهد، لكون الممثلين هنا، يروون عن ذواتهم، وليس عن ذوات أخرى، بحيث يدركون مكامن الجروح والأوجاع التي خلفتها سنوات الاعتقال في أرواحهم وأجسادهم.
المكان الذي هُيّئ ليكون سجنًا يعود إلى مدرسة مهجورة في واحدة من البلدات اللبنانية، وقد أعدها الممثلون ليحاكوا من خلالها جغرافية معتقل تدمر
وأما عن المكان الذي هيئ ليكون سجنًا، كما أشارت اللافتة السوداء التي غطت شاشة العرض، يعود إلى مدرسة مهجورة، في واحدة من البلدات اللبنانية، وقد أعدها الممثلون ليحاكوا من خلالها جغرافية معتقل تدمر، كما أوحت لهم ذاكرتهم عن ذلك السجن، حتى إنهم تقمصوا أدوار الضحايا وأدوار الجلادين في مرات كثيرة.
في واحد من المشاهد الافتتاحية للفيلم، تثبت الكاميرا على معتقل، يقضي خمس سنوات من حكمه في زنزانة، وقد لعبت الإضاءة دورًا كبيرًا في الإيحاء لنا، بأنها زنزانة حقيقية، حيث انحصرت اللقطة ضمن جدران ضيقة خانقة، راح يتحرك في حيزها الممثل، وهو يسترق السمع لأصوات السياط وهي تنزل على أجساد معتقلين، لا يتوقف صراخهم ونحيبهم، ورغم أن تلك الأصوات تدمي روحه، فلا يجد إلا أن يسترق السمع إليها، باحثًا عن مصدرها، عساه يعرف مَن مِن رفقاء السجن الذين يقع عليهم كل هذا التعذيب، إلى أن يعثر على ثقب يتاح له من خلاله، رؤية الجلادين وهم يعذبون واحدًا من المعتقلين، ومن شدة هول ما يرى، لا يقوى على الاستمرار في مراقبة ما يحدث، فينكفئ على نفسه، وينزوي في سريره، مطبقًا بيديه على أذنيه، لئلا يسمع صراخ المعذبين.
تنقلنا الكاميرا بعد هذا المشهد، إلى معتقل آخر، يجلس على كرسي في حجرة خالية تمامًا، راح يروي عن تفاصيل اعتقاله، ليعود بنا إلى سنة 1987 إلى زمن اعتقاله، ليروي عن تلك اللحظات التي تم فيها إخراجه من المعتقل في الساعة الثانية ليلًا، وعادة ما يكون هذا التوقيت، وقت الإعدامات، مما يجعله في حالة من الهلع والذعر، لنجد أنفسنا وقد رحنا نستمع إلى إنسان كان قد سيق إلى الإعدام، أو على الأقل هذا ما توحيه إلينا حكايته، حتى إننا من خلال رويّه المتقن، أداءً ومضمونًا وبساطة، نكاد ننتظر معه كيف ستتم عملية الإعدام، إلى حد أن هذا الأداء العفوي، الذي أمله لقمان سليم على جميع الممثلين الناجين من الموت، استطاع أن يدخلنا مرة تلو الأخرى، إلى رحم المعتقل، والإحساس بالسجين، وما يتكبده من مرارات العيش فيه، إلى حد التماهي مع الحدث المروي من جهة، ومع الحدث الذي يجري على مرأى من عيوننا من جهة أخرى، إذ كان خروج الشخصيات عن حالة الرواية والتوصيف، ليتدخلوا في حالة التمثيل، بتواصل باستمرار، وفي لحظات ومشاهد كثيرة، كانت الكاميرا تقف بمواجهة شخصيات آثرت الصمت طوال المشهد، ذلك الصمت الذي تحدث عنه لقمان سليم في تقديمه للفيلم، مشيرًا إلى أن الصمت يكون في كثير من الأحيان أبلغ من الكلام، غير أنه في حياته الشخصية لم يختر الصمت لنفسه، بل ترك هذه النعمة لغيره، مفضلًا أن تكون روحه معبرًا لحرية الآخرين، ذلك الصمت الذي يشبه حالنا المكتسية بهول الفجيعة وخيبة الفقد.