icon
التغطية الحية

عن رواية "هذيان الأمكنة" الفائزة بجائزة كتارا (2021)

2024.07.08 | 00:07 دمشق

565767576
+A
حجم الخط
-A

تستعيض الكاتبة اعتدال الشوفي في روايتها (هذيان الأمكنة) عن فنيات الحبكة الروائية الحديثة ومرونة السرد ومنحنياته، بما تضخّه من تفاصيل سردية، تلعب فيها المصادفات والعواطف وشتى الانفعالات والمواقف أدوارا أساسية في مسار سردي استقصائي يتصاعد خطيا من دون أن يترك فسحة لبعض الالتفاتات التي تقلل من هيمنة الزمن النمطي للرواية الحديثة. وفي مساره يأخذ زواج يوسف ويافا شكل مكافأة لعاشقين عملا معا، ولم يعد لما تضيفه الحكاية من استقرار يافا مع طفلتها قرب جدتها المسيحية في لبنان ما يغني. بينما يظل يوسف بصحبة زميله منخرطا بأعمال الإغاثة ومحاولة ترميم واقع ما بعد الحرب، حتى أنه لا يجد متسعا من الوقت لتوقيع ديوانه الشعري، الذي أشرفت يافا على طباعته ونشره في بيروت.

ويعتمد مسار السرد على النبش في مخلفات الحرب وأهوالها وكوارثها، عبر ما يرويه يوسف المتطوع في عمليات الإغاثة، بعد أن حصل على تصريح رسمي، لتجاوز الحواجز وتفقد أماكن طفولته ويفاعته، التي حرم منها منذ سبع سنين، حين هرب إلى بيت جده الآمن في دمشق، بينما أبيدت أسرته وأسرة يافا بالقصف وتهدم الحي الذي عاشا وتعارفا فيه منذ الطفولة، ثم عادا بمصادفة قدومها من بيروت إلى دمشق وجددا معرفة مؤسسة على ود سابق وتشاركا في مهام وأعمال ثم كللت علاقتهما بزواج وطفلة

التنوير في رواية (هذيان الأمكنة)

ينصبّ اهتمام الكاتبة على كشف الوقائع والتنوير بالحقائق فتقول: "... وحيث ثمة حقيقة غائبة وراء كل معلومة تصلنا عبر هذا الفضاء الغَبِش علينا السعي لإدراكها، كي لا نرحل كما جئنا بأعين مغمضة". هذا يعني أنها تضع يدها على وظيفة التنوير الشديدة الأهمية في كل عمل روائي ناجح وتولي المتن الروائي أو الموضوع جل عنايتها.

(هذيان الأمكنة) ليست رواية سياسية ولكنها تتحرى نتائج السياسة على المجتمع الأهلي، وتجاري واقعاً فرض مساره ومعطياته عبر مشاهداته ومروياته

وعبر التلازم والتكامل بين الحكاية ومبنى الرواية وعنوانها البلاغي (هذيان الأمكنة) وما يضفيه حديث يوسف الراوي النائب عن الكاتبة من حرارة على لغة التعبير المفعمة بالانفعالات والعواطف، يقع التنوير بأهوال الحرب على بيوت العامة الذين كانوا أهلاً وأصدقاء وجيرانا، من دون الحاجة إلى إعلان صريح عن الفاعل الواضح بالإشارات والدلائل. وبذا يجنب الراوي السرد مطب الوقوع في الهجاء السياسي ويكتفي برثاء زمن الاستقرار والحب الذي كان. وفي هذا التجاهل ينتقل السرد من دائرة اليقين إلى دائرة الاحتمال والظن (اللايقين) الذي هو أبلغ ومن ضرورات السرد الروائي.        

البعد الجمالي والتخيّلي

أفسحت بساطة الحبكة المجال للتفاعل بين السرد المتنامي وشحن الواقع الهذياني التخيّلي بلغة إبداعية شاعرية مفعمة بالمشاعر، وترتقي بالدال اللغوي السيميائي إلى أقصى مدلولاته اللغوية ليتطابق مع لامعقولية الواقع الصادم، والذي يشرّع لاستعارة الهذيان من السكان المغيبين والبشر إلى الأمكنة الموحشة والمهدمة.

كما يبدو يوسف شخصية وجودية مأزومة، تعلن عن نفسها (أنا يوسف يا أبي) وهو يستنكر أن يُعرف به بورقة ممهورة بختم، وهو ابن المكان الحاضر في الخطوط الخلفية للحرب والذي يمضي متوجساً مضطرباً ويعيش كل تداعيات الدمار الأخلاقية والنفسية، فتتصاعد نجواه الذاتية مشحونة بأسى يفرش ظلاله على المكان والذاكرة المغبونة. وهنا تضعنا الكاتبة في البعد الرسالي للكتابة الأقرب إلى مزاج الحكاية الشعبية مع المحافظة على بعديها الترفيهي الجمالي والغرضي التنويري

وسنستمع إلى نجوى يوسف المؤسية وهي تتصادى في مشهد تخيلي مع إيقاع خطوه في واقع افتراضي شديد التوحش يقارب الواقع المعيش: "لأول مرة بعد سبع سنوات أشعر أني بدأت أتلمس درب العودة، كحال ضرير أمسكوه عصا وطلبوا منه أن يتبع صوت حبيبته التي تنتظره في آخر المتاهة وقد كان خياري الوحيد اقتفاء ذاك الصدى حتى لو كان سراباً". إنها المشاهد وقد تحولت إلى ثيمات أسئلة استنكارية جارحة: "تُرى أين ذهبوا؟ وكم من العظام اختفت تحت كاهل الرماد المتراكم؟ تُرى ما الذي تُخفيه تلك الحقائب اليتيمة في جنباتها؟ كم من الأحلام وُئِدت على قارعة الطريق؟ آه يا بلدي".

الفضاء الروائي

في مدينة دمشق القلب السوري النازف يتكثف الفضاء الروائي الأهم ويتفرع إلى بيروت لتتفاعل فيه الشخوص والأحداث وتجري ديناميات سردية، يتجدد عبرها الحب والجندرة بين يوسف ويافا الفلسطينية السورية المزروعة بالحدث السوري المتكامل مع مأساة فلسطين ويغدو الحب حافزاّ إضافيا للمتابعة وتبادل الأدوار بين عاشقين يجسدان التحرر وكسر الحواجز الاجتماعية وصولا إلى الحرية، بوصفها حالة نضج قصوى تجسد الحب بمعناه الإنساني والشخصي.

اللغة (السرد والوصف والحوار)

تهتم الكاتبة بالتوافق الإيقاعي والتعبير السردي الشاعري ويظل يوسف الشخصية الافتراضية الذي يروي عن مشاهداته وعن ألمه وأحاسيسه ومشاعره:

"الطريق الواصلة من باب شرقي لباب توما مكتظّة برائحة الياسمين المتدليّ فوق السور الحجري المرتفع الذي يلفّ بيوت دمشق العتيقة منذ قرون، بحنوِّ أبٍ يحتضن أبناءه السبعة بيدٍ، ويُطلق اليد الأخرى لتمسّد شعر محبوبته الغافية على زنده مطمئنة".

كما تستثمر الكاتبة جيدا بالصوت واللون والرائحة والنكهات لترسم مشهدا متكاملاً وشديد الحساسية: "تناهى لمسمعي أصوات قصفٍ قادمة من الطريق بكثافة وبدأت معها حبيباتي السمعية بالتخبّط لتُدخلني في نوبة دوّار دهليزيّ جديد". وفي الوصف الموشى بالحزن: "كانت الشمس فوق التلال المحيطة بقاسيون، قد بدأت الصعود بخجل.. ظلال الأشجار المبتورة تتراكض صوبنا". ويتابع يوسف السرد:

"بدأت أستفيق شيئاً فشيئاً من غيبوبة الوجع، والألم المدمّر.. حاولت أن أشغل نفسي بالتصوير، فطالما أفردت لي هوايتي الولوج لزوايا الأماكن والأشياء بعمق، والبحث عن طرق جديدة لملاحقة المجهول الكامن وراء الوجود المرئي..  كانوا هنا؟! تُرى أين ذهبوا؟ وكم من العظام اختفت كم من الدُمى تنعي عشّاقها، والأوراق والكراريس؟ كل الممرّات تُشير لي أن أزيلَ عن كاهلها ليالي الغربة.

ولجتُ المكان متوجّساً.. حجم الألم بات فوق الاحتمال، ناديتهم فرداً فردا.. لم يجبني أحد.. يا الله، ما كل هذا الصمت؟! تورطت أكثر إلى الداخل: صرخات أخي الرضيع على صدر أمّي الميتة، الحقيبة المدرسية المعفرة بالدماء؟ انفجرتُ باكياً.. لم أعد استطع المكوث أغمضتُ عيني قليلاً.. خطوات مرتعبة لفتى لم يتجاوز السابعة في غرف الطابق العلوي".

خلاصة

(هذيان الأمكنة) ليست رواية سياسية ولكنها تتحرى نتائج السياسة على المجتمع الأهلي، وتجاري واقعاً فرض مساره ومعطياته عبر مشاهداته ومروياته، وعبر محاولة العاملين المدنيين في لملمة ما يمكن وإعادة بنائه، عبر بناء النفوس والأرواح التي هشمتها الوقائع والقلوب التي أدمتها الفظائع. هكذا يذهب الجميع بعد الكوارث، لتدارك ما خلفته على البشر والحجر.

كذا يبدو تفاؤل الكاتبة بترميم آثار الحرب في دمشق مبكرا، ولكن له بعض مبرراته العاطفية والوطنية.

***