ليس مستغرباً أن يكون السوريون من أكثر شعوب العالم انشغالاً وتأثراً بالحرب العدوانية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، بالنظر إلى اعتبارات وحيثيات عديدة دفعتهم إلى متابعة ما يجري للشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، وإبداء معظمهم التضامن معه، وجاءت مواقفهم مستندة إلى عدالة القضية الفلسطينية واعتبارها قضية مركزية، وإلى الترابطات والتقاطعات بين ما يُرتكب من جرائم في كل من فلسطين وسوريا، وتطلع الفلسطينيين للخلاص من الاحتلال الاستيطاني الصهيوني وتطلعهم إلى الخلاص من نظام الأسد الإجرامي.
كما أنه ليس مستغرباً أن يستغل نظام الأسد التركيز الدولي والعربي على الحرب الإسرائيلية، كي يصعد من حربه على مناطق إدلب وجوارها، فقد تعود على استغلال كل الظروف الدولية والإقليمية من أجل الإمعان في قتل السوريين، في حين آثر هذا النظام النأي بنفسه حيال ما يجري للفلسطينيين، ولم تسمح سلطاته لأي مظهر تضامني معهم، حيث فرضت أجهزته الأمنية على الفصائل الفلسطينية حصولها على "موافقة أمنية" مسبقة قبل تنظيم أي فعالية تضامنية، ورفض تنظيم أي مظاهرة تضامنية مع أهل غزة. وباستثاء إطلاق ميليشيات إيرانية وفلسطينية بعض الصواريخ والمسيرات باتجاه الجولان المحتل، فإنه لم يصدر عن نظام الأسد أي تصريح، إلا بعد مجزرة المستشفى المعمداني، التي وصفها بإحدى أبشع المجازر ضد الإنسانية، متناسياً الهجمات البشعة والمتعددة، التي قامت بها قواته والقوات الروسية، ودمّرت خلالها عشرات المستشفيات والمراكز الصحية في مناطق سيطرة المعارضة، خلال الحرب المستمرّة التي يشنّها عليها منذ 2011.
لم يتوقف النظام عند انشغال العالم والعرب بالحرب الإسرائيلية على غزة، بل أيضاً استغل بشار الأسد دعوته إلى القمة العربية الإسلامية، التي عقدت في الرياض السبت الماضي، كي يتشدق بعبارات تنطبق عليه أيضاً، حين تحدث عن تفوق الصهيونية على نفسها في الهمجية، وكل من سمعه يعلم جيداً أن همجيته ضد السوريين والفلسطينيين لا يمكن إغماض العيون عنها، حيث ما تزال حفرة التضامن وسواها شاهدة عليها، فضلاً عن مجزرة غوطتي دمشق بالسلاح الكيمياوي، التي ارتكبها ضد المدنيين العزل في 2013. كان عليه أن يخجل من نفسه لو بقي لديه ذرة ضمير إنساني، والأهم أنه كان على منظمي القمة ألا يدعو مجرماً مثله لحضورها، خاصة وأنها عقدت لاتخاذ مواقف ضد جرائم إسرائيل، التي لا تفترق عن جرائم الأسد.
الحرب الإسرائيلية على غزة كشفت زيف شعارات المقاومة والممانعة التي يرفعها المحور الإيراني، وبات قواها الاخطبوطية في حلّ من تبعات ما يجري في غزة، وغير معنية بالرد على إسرائيل
لم يأت الأسد على ذكر "وحدة الساحات"، وقد سبقه في ذلك حزب الله اللبناني، عندما تنصل أمينه العام من تبعاتها، واعتبر عملية "طوفان الأقصى"، التي قامت بها حركة حماس في 7 من أكتوبر/ تشرين أول الماضي، عملية فلسطينية مئة بالمئة، كي يبرر تنصله، وبالتالي، فإن الحرب الإسرائيلية على غزة كشفت زيف شعارات المقاومة والممانعة التي يرفعها المحور الإيراني، وبات قواها الأخطبوطية في حلّ من تبعات ما يجري في غزة، وغير معنية بالرد على إسرائيل، التي لم تتوقف عن قيامها بقصف شبه يومي لمواقع إيرانية في سوريا ولمواقع قوات الأسد أيضاً. ولم يعد في وسع نظام الأسد الاستمرار في المزاودة على الفلسطينيين، واللعب بقضيتهم، بوصفها ورقة في يديه، خاصة بعد انكشاف وجهه الطائفي، وانحسار مزاوداته بالشعارات القومية العربية.
بالمقابل، كان طبيعياً أن يركز معارضو نظام الأسد على الترابط بين الحربين، الإسرائيلية على غزّة والأسدية على إدلب، على الرغم من تباين مواقفهم حيال العملية التي قامت بها حماس، لذلك أثروا إبراز الروابط العميقة بين القضيتين الفلسطينية والسورية، خاصة في ما يتعلق بجوهر الممارسات والسياسات بين الاحتلال والاستبداد، التي تهدف إلى القتل والتدمير، والسيطرة على الأرض وتهجير ساكنيها قسرياً. وهو أمر لم يخفيه ساسة الاحتلال الإسرائيلي، حيث أجبرت آلتهم العسكرية معظم سكان شمالي غزة على ترك أماكن عيشهم والنزوح إلى جنوبها، وما زالوا يسعون إلى تسويق مخططهم الرامي إلى تهجيرهم نهائياً من غزة نحو سيناء، وهو أمر رفضته مصر.
تنتاب السوريون في مناطق سيطرة النظام مشاعر متناثرة، فهم لم يخرجوا من الكارثة التي ألمت بهم، نتيجة ممارسات النظام والاحتلالين الإيراني والروسي، لكن ذلك لم يمنع تمسك معظمهم بالموقف الرافضة لهمجية إسرائيل والتمسك بعدالة القضية الفلسطينية، ولعل ما يجري يعمق المظلومية التي أحاقت بأهل فلسطين، وأحاقت بهم كذلك، فضلاً عن مأساوية الأوضاع الداخلية التي يعانون منها، لكنها لا تمنعهم من التمسك بفلسطين، انطلاقاً من أبعاد وجودية وإنسانية، تتخطى السياسة الضيقة، وخاصة تغيير مواقف حركة حماس من النظام السوري الثورة السورية.
الخلاص من الطغيان لا يفترق عن السعي إلى التحرّر من الاحتلال، وأن دم الضحايا واحد، ومن غير الممكن الفصل بين حقّ الشعوب في التحرر، وحقها في العيش بحرية وكرامة
لا شك في أن شراسة استهداف نظام الأسد إدلب ومناطق الشمال الغربي في سوريا بالتزامن مع الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، وتشابه السياسات والممارسات، تشير بوضوح إلى أن الخلاص من الطغيان لا يفترق عن السعي إلى التحرّر من الاحتلال، وأن دم الضحايا واحد، ومن غير الممكن الفصل بين حقّ الشعوب في التحرر، وحقها في العيش بحرية وكرامة، فضلاً عن أن الصور الفظيعة لجرائم إسرائيل، التي تتناقلها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، تشير بشكل جلي إلى فداحة المجاز وهمجية المعتدي الإسرائيلي، ولعل الدعم الذي يتلقاه ساسة اليمين العنصري المتطرف في إسرائيل من طرف أغلب ساسة دول الغرب ووسائل إعلامها، يدلّ على ضياع الإنسانية وغياب الضمير الإنساني لديهم، إنه عار يلحق بكل من يحاول تبرير جرائم الإبادة الجماعية.
السوريون ليسوا وحدهم من ينشغل بما يجري في غزة، وليسوا كذلك وحدهم من يتضامن مع الشعب الفلسطيني ضد همجية إسرائيل، بل شعوب كثيرة في العالم عبرت عن تضامنها بخروج أعداد كبيرة منهم في مظاهرات حاشدة، عمت شوارع واشنطن ونيويورك ولندن وباريس وبرلين وسواها من المدن في العالم، لكن ما يميز السوريين هو أن مشاهد القتل والدمار التي تخلفها الآلة العسكرية للاحتلال الصهيوني، تذكرهم بما حلّ بهم وببلادهم، من جراء الحرب التي شنها عليهم نظام الأسد، بدعم إيراني وروسي، منذ أكثر من 12 عاماً، والتي أفضت إلى تحويل معظم مدنهم وبلداتهم وقراهم إلى خرائب، وإلى تهجير أكثر من نصف السوريين من أماكن عيشهم وسكناهم.