تعنون دارين زكريا ديوانها الشعري "وسواس.. هايكو ونبضة" في إشارة منها إلى خاصية شعرية تعرف بـ"الهايكو"، وهو نوع شعري يعتمد على الإدهاش، وتحرير المتلقي من ثقله الوجودي، ليغوص بعيداً عبر آفاق روحية جمالية، يشعر معه، وكأنه يسافر إلى الكون للمرة الأولى، متفكراً متأملاً فيما يراه من صور ومشاهد باهرة، وقد حل به ارتياح، وبنوع من الشفاء، الذي تحدث عنه هولدرلن قائلاً: "إنني أكتب شعراً يعود على البشر بالشفاء".
ما يميّز أشهر كتاب هذا النوع من الشعر، أمثال طاغور وبورخيس وتوماس ترانسترومر وغيرهم، اعتمادهم على الإبصار وليس النظر، أي التأمل، وليس المشاهدة فقط، ولا سيما أن كل ما في عالمنا الكوني سر يخفي خلفه سراً آخر، أو تورية خلفها تورية، ونلحظ تجلي مثل هذه التورية، في مقطع جاءت به دارين زكريا، لتنبش من خلاله صورة متوارية خلف العادي والمألوف، فتقول:
"الثلج أبيض/ الثلج جميل/ الثلج قاتل/ تمتمت شفاه زرقاء/ لطفل سوري/ في قبره الكرتونة".
يطلق على كاتب شعر الهايكو الطفل/ الفيلسوف، لأنه لا ينقل الشيء في ذاته، إنما ينقل الأحداث والصور كما هي في سجيته
وكما يطلق على كاتب شعر الهايكو الطفل/ الفيلسوف، لأنه لا ينقل الشيء في ذاته، إنما ينقل الأحداث والصور كما هي في سجيته، كذلك نرى هنا رسماً للصور والمقاطع بروح الطفل المتأمل، معتمداً على عمق البساطة وفلسفة البراءة، وكذلك فقد أحال الحديث عن الحرائق التي أتت على القمح السوري، إلى مشهدية، ترصد الوهن الذي حل بالكائنات والأشياء، أمام النار التي تلتهم كل شيء وقد بدت بدورها كائن حي، لديه خطط ومشاريع أحلام زاهية:
"القمح في بلادي/ صبايا بفساتين ذهبية/ أكلتهم الغولة النار/ لتستعيد شبابها".
ويظهر مقدار الاعتماد على الإيحاءات المنبعثة من القصيدة، دون التعبير عنها بصريح العبارة، فها هي دارين تلتقط فكرة يكاد يكون الحديث عنها شعرياً، أمراً غير مألوف، لكنها هنا تجعل منها ومضة غنية بالمعاني والصور، وكأنها تؤسس لمشهدية جمالية:
"الدورة الشهرية للسماء/ كل مساء/ بوقاحة يعلن بلوغها/ احمرار الشفق".
وعلى هذا النحو يأتي التعبير عن البهاء الكامن في أبسط الأشياء، معيداً تفسيرها برؤية مختلفة، كما يتبين ذلك في هذا المقطع الكوني:
"خجل الشفق/ من قبلة السماء له على العلن/ فتلونت وجنتاه بالحمرة".
ومن مثل هذه الصور والتعابير البريئة والمدهشة، يتم التحرر من العادي والمألوف، بكلمات قليلة، تعبر عما يحدث في خفايا الأشياء العادية، كما في هذا المقطع:
"فكرة مجنونة / تعتلي رأس الماء/ حين غليانه".
وهنا نلحظ مقدار البساطة، وعمق التأمل حتى تم إنتاج مقطع شعري كهذا، وعلى هذا النحو، بدا العالم كله في ديوان "وسواس.." عالماً غرائبياً، متخماً بالشعرية، والمتخيل، فكثيراً ما نلحظ، وفي معظم المقاطع الشعرية، ما يشبه الوسواس الجنوني الساعي لاكتشاف تفاصيل ومعان جديدة للكون والأشياء، وكأننا أمام عالم من الأساطير، باتت الأشياء والمفاهيم في خضمه، تتصارع فيما بينها لإنتاج الجمال الشعري، كما في هذا:
"جاع الليل/ كانت فريستها السهلة/عينا النهار".
وإن كانت دارين زكريا تبني جملتها الشعرية على نحو سلس مريح، بحيث يأمن لها القارئ، غير أنها سرعان ما تقلب معانيه، لتباغتنا فجأة بمفردة أخيرة، أو مفردتين، تقلبان المعاني والصور رأساً على عقب:
"لا يستحيي الهواء/ كلما اشتهى/ يرفع للستارة ثوبها".
هو لعب طفولي في متاهات اللغة، غايته تعرية الأشياء من حولنا، وكأننا نكتشفها لأول مرة، إذ تستحضر الصور والمشاهد المعدة مسبقاً في الواقع، ليعاد ابتكارها من جديد، فتكتشف فيها معان وإيحاءات لم تكتشف من قبل:
" كذب الليل/على أخته الدنيا ملياً/ فاسودّ وجهه".
كذلك تفعل دارين حين تتناول المأساة السورية، فهي ترصدها برؤية غرائبية، محيلة أوجاع الضحايا، إلى أغنية ملحمية، تضفي عليها روحاً شاعرية، فها هي تسجل عن عذابات المعتقلين الذين اقتربت منهم إلى حد الإبصار والتماهي، وكأنها أخذت تتلمس بيديها آثار الجراح والآلام التي تركتها السياط وأدوات التعذيب على أجسادهم:
"يتنافس الأزرق بشراسة/ مع الأحمر/ في لوحة رسمت/على ظهر المعتقل".
وفي تناولها لموقف العالم من قضية اللاجئين، وقد استحالوا إلى مصدر تسلية للصيادين الذي يصطادون الناس في عرض البحر، كمن يتصيد الإوز، حين تشرح فكرة "الضمير الميت" كما عنونت عباراتها القائلة:
" يصطادون البشر/ بدل الإوز/ خفر السواحل".
وهي لا تحتال على قصيدتها كي تؤدي الدور المرسوم، والمعد لها مسبقاً، إنما تترك لقطاتها الشعرية لتلاعب روح وفكر القارئ، وقد استغرق في لهو حزين، يخال له وكأن الكون بات أمامه، خشبة مسرح، وما من كائن أو عنصر فيه، إلا ولديه (منولوج) يبوح به، أو حوار يتبادله مع طرف آخر، ولم يسبق لهما من قبل أن تحاورا، ما يوحي إلى إعادة الاعتبار للأشياء البسيطة واكتشاف بهائها وخباياها، كما في هذه الصورة:
"لا يغلق فمه/ الجائع أبدا/ حذاء الفقير".
حتى أن اعتماد اللقطات الخاطفة القصيرة، كما عادة شعر الهايكو، توحي إلى القارئ وكأن ثمة من يتتبع تسلسلها، ليحيلها في نهاية المطاف إلى شريط سينمائي كابوسي، دون أن يفترق للعذوبة والجمال، فحتى الحديث عن الفواجع والمآسي، يكون ذاخراً بالشعرية والسحرية، كما في هذه المقطع المرير:
"لم يكن عمرنا قصيراً/ لكن أسلحتهم تقصف/ أعمارنا".
وكذلك الحال في تناول موضوع الهجرة والغربة كما في هذا المقطع:
"أنا مشعة/ آكل جمر الغربة/ فأضيء".
معظم تلك اللوحات، لا تكاد تحتل مساحة السطر الواحد، غير أنها عبرت عن المعنى بشكل مذهل، وهذا الإيجاز هو تماماً ما يعتمده شعر الهايكو
وتأتي دارين بمشهدية أكثر ريبة، وأكثر سحرية حين تقول:
"برغم وجود الشمس/ ما زال حبل الغسيل يشكو/ تلعثم قطرات الدم في ملابسنا".
بهذه الشاعرية، وروح الدهشة التي صاحبت جميع لوحات ومقاطيع ديوان وسواس، تصوغ الكلمات والتعابير، حتى أن معظم تلك اللوحات، لا تكاد تحتل مساحة السطر الواحد، غير أنها عبرت عن المعنى بشكل مذهل، وهذا الإيجاز هو تماماً ما يعتمده شعر الهايكو، يضاف إلى ذلك ترك المقاطع الشعرية تنساب بسلاسة، وكأنه ما من رقيب عليها، ويمكن لنا من خلال المقطع الشعري الذي ختمت به دارين زكريا ديوانها، تبيان طبيعة العلاقة بينها وبين قصائدها، إذ تقول:
"كلما شددت القصيدة/ من شعرها/ ربطت لي لساني".
تاركة إياها تعبر عن مكنونها الروحي والفكري دون أن تمارس عليها الجبرية، والزخارف اللغوية، فشعر الهايكو كما فسره كتابه ومنظروه، لا يوجد في الحروف، ولا في الاستعارات، ولا في الإيقاع السريع أو البطيء، إنما مكانه في القلب.
اقرأ ايضاً: شعراء في ظل التراجيديا السورية.. قراءة في الشعر السوري وتحولاته
اقرأ أيضاً: الأدب النسوي السوري.. انكفاء الشعر وسيطرة الرواية الوثائقية