عن السوريين في جدلهم البيزنطي

2024.11.01 | 06:06 دمشق

ثورة لكل السوريين
+A
حجم الخط
-A

غالباً ما يتم اللجوء إلى الحوار في العلاقات بين البشر لاستبعاد العنف، أو لتخفيفه، أو من أجل إيجاد أفضل الحلول لمشكلة ما، ويمكن لنا أن نذهب أبعد من هذا لنقول إن جوهر السياسة وجوهر عمل وغاية الأحزاب السياسية، وطرق إدارة الخلاف بين قوى أي مجتمع هي الصيغة الأكثر تطوراً للحوار.

وبالتالي، فإنه إضافة للمعايير المتعددة لقياس تطور مجتمع ما يمكن اعتبار ثقافة الحوار والقدرة على ممارسته، وطريقة إدارة الاختلاف معياراً مهماً من ضمن هذه المعايير، بعبارة أخرى يمكننا من خلال دراسة وفهم آليات الحوار وطرقه واختيار مفرداته في مجتمع معرفة مدى تطور المجتمع، ومدى حجم العنف المختزن داخل ثقافة  أفراد هذا المجتمع، وعليه، يمكن القول إنّه كلّما تراجع الحوار في مجتمع ما ازداد منسوب العنف فيه.

لن أخوض هنا طويلاً في الفروقات بين النقاش والحوار والجدل، فالنقاش هو حديث عادي وطبيعي بين طرفين أو أكثر حول موضوع ما، بغض النظر عن مدى التوافق في وجهات النظر بين المتناقشين.

من الطبيعي أن تكون ثقافة الحوار في المجتمعات المقموعة معدومة أو تكاد، والقمع هنا ليس مقتصراً على قمع السلطة السياسية، بل يشمل قمع سلطات كثيرة أخرى، كسلطة المقدّس والأيديولوجيا والعادات والسلطة البطريركية وغيرها..

ولكن ما يجمعهم هو محاولة الوصول إلى الحقيقة، أو إلى فهم مشترك للموضوع، في حين يتحوّل الأمر إلى جدل عندما يقف كل طرف ضد ما يقوله الآخر، ويعاكسه، ولا يكون الهدف هنا هو الحقيقة أو الفهم المشترك للموضوع، بل يكون أقرب إلى التخاصم، ويغلب عليه العناد، والتعصب للرأي، ونفي الرأي الآخر، أمّا الحوار فهو ما يكون بين مختلفين في الرأي ويهدف لفهم كل طرف للآخر، وسماع رأيه بحياد، و لا يكون بين المتحاورين ما يشي بالخصومة أو العناد.

من الطبيعي أن تكون ثقافة الحوار في المجتمعات المقموعة معدومة أو تكاد، والقمع هنا ليس مقتصراً على قمع السلطة السياسية، بل يشمل قمع سلطات كثيرة أخرى، كسلطة المقدّس والأيديولوجيا والعادات والسلطة البطريركية وغيرها، والتي تنتج غالباً مجتمعاً يمكن وصفه بمجتمع الأوصياء، والوصاية هنا متعددة ومتداخلة، يتربع في أعلى هرمها سلطتان طاغيتان هما سلطة المقدس وسلطة الحكم.

عند انهيار السلطات القامعة لسبب ما، يتوهّم المقموعون أنهم نالوا حريتهم، لكنها غالباً ما تكون حرية زائفة لعدم ارتكازها على الوعي الضروري جداً لممارسة الحرية، وفي هذه اللحظة تصبح الفوضى المنفلتة هي السمة الأعم، وغالباً ما يحاول من كانوا مقموعين إعادة إنتاج سلطات جديدة لكي يعيدوا إنتاج القمع من جديد، أي يغيب البحث عن الحرية التي كانت مطلباً أساساً، ويحل محلها إعادة إنتاج سلطات جديدة قادرة على القمع.

هذا ما يمكن تبيّنه بسهولة في العلاقات التي نشأت بين السوريين بعد الثورة السورية، فقد انهارت السلطة السياسية بالنسبة لمن أصبحوا خارج سلطة النظام، وترعرعت سلطات أخرى أهمها سلطة الدين، وسلطة السلاح، بالإضافة إلى سلطة المال التي تظل قائمة مهما تبدّلت أشكال وأسماء السلطات القامعة.

في لحظة انهيار السلطة في المجتمعات المقموعة ينشب صراع جديد على السلطة -أقصد هنا كل أنواع السلطة- يكون العنف وسيلته الأهم، أي يصبح العنف هو وسيلة التعاطي الأساسية بين الأطراف، والعنف هنا لا يشترط أن يكون فقط بالسلاح أو بأي شكل من أشكال القوة، بل تتعدد أوجهه سواء بالتنمر المستشري في أوساط السوريين أو بالكذب أو بكتم الصوت أو..أو.

ورغم خطورة الأمر وتفشّيه إلا أن الأخطر من كل هذا هو تواطؤ الشرائح المؤثرة في المجتمع مع هذا العنف وانخراطها فيه، أي انتشاره ليس فقط ضمن شرائح الناس العاديين بل تمدّده ليطول النخب الثقافية والسياسية والفكرية.

هنا الكارثة، حين يلج المجتمع بكامله في حلقة صراع مدمّرة، صراع متعدّد الأوجه، ومتعدّد الأدوات، وكلّ يستخدم في حمأة هذا الصراع ما يستطيع من أدوات لسحق الآخر، بدءاً بالسلاح، ومروراً بالسجن (سلطات الأمر الواقع)، والتكفير (استعمال المقدّس)، والتخوين (استعمال القتل المعنوي)، وانتهاء بالتجييش وهدر الدم والافتراء و..و.

لحظة الصراع هذه في أي مجتمع هي اللحظة المثالية للانقضاض على هذا المجتمع من أطراف أخرى لها مصلحة فيه، فتعمل على تغذية الخلافات بين أفراده، وتشعل حرباً بينهم، وتموّل أطرافاً منهم فيتبعون لها، ويصبحون أدواتها في تحقيق مصالحها، ومن المفترض في هذه المرحلة أن تقوم النخب الثقافية والسياسية والفكرية في حماية مجتمعاتها، لكن في حال غياب هذه النخب أو انخراطها في الصراع متخلية عن مسؤوليتها فإن إنقاذ هذه المجتمعات يصبح بالغ الصعوبة، وتصبح هذه المجتمعات في مواجهة تحدي البقاء.

من أخطر سمات الحوار في لحظة الفوضى هو أنه يصبح بلا جدوى، ويتحوّل إلى جدل عقيم، لا بل إنه يسهم في معظم الأحيان في زيادة حدّة الصراع وتأجيجه، ويصبح التنازل مهما كان صغيراً أمام أي من أطراف المجتمع الداخلية هزيمة كبرى، وخيانة، في حين يصبح التنازل أمام الآخر الخارجي مشروعاً مهما كبر حجمه، وربما يعتبر بطولة.

هل سنصبح يوماً ما مثلاً في التاريخ فيُقال (الجدل السوري) بدلاً من الجدل البيزنطي، كونه أكثر تعبيراً عن الجدل الذي يقود إلى الهلاك؟

لكي يكون الحوار مجدياً في هذه اللحظات لا بد من توفّر شروط الحد الأدنى لقيامه، فهو يتطلب أولاً: وعي المصالح الجمعية لكل أطراف المجتمع، ويتطلب ثانياً: البناء على المشتركات الأساسية مهما كانت نسبتها متدنيّة، وثالثاً: مهارة فائقة في ترتيب الأولويات، والأهم أنه يتطلب الاعتراف بحق الآخر، والقدرة على التسامح وتعزيز المشتركات.

عندما حاصر السلطان العثماني (محمد الفاتح)، "القسطنطينية" عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، وكان مصير الإمبراطورية بأكملها في خطر شديد، كان مجلس المدينة مشغولاً بمناقشة جنس الملائكة، وحجم إبليس، في حين كان القتال يدور قريباً منهم، وتمكّن الجنود العثمانيون من اقتحام أسوار المدينة، والسيطرة عليها، وانهارت الإمبراطورية، من هنا جاءت تسمية الجدل البيزنطي للتعبير عن الجدل العبثي الذي لا طائل منه، والذي لا يتمكّن فيه طرف من إقناع الطرف الآخر، والأهم أنه يغيّب ما هو ضروري وملحّ.

السوريون اليوم هم سادة الجدل الذي لا طائل منه، ففي الوقت الذي يقرّر الآخرون مصير سوريا، وكيف سيتقاسمونها، ينخرط السوريون في معارك الوهم حول طوائفهم وقومياتهم، وحول جنس دولتهم هل هي إسلامية أم مدنية أم علمانية، وهل هي مركزية أم فيدرالية أم.. وهل يحق الجلوس مع هذا الطرف أم لا يجوز، ويخترعون معايير جديدة للتخوين والتكفير، فهل سنصبح يوماً ما مثلاً في التاريخ فيُقال (الجدل السوري) بدلاً من الجدل البيزنطي، كونه أكثر تعبيراً عن الجدل الذي يقود إلى الهلاك؟