"الحداثة"، كحركة إبداعية، قادت التغيير الثوري في بنية القصيدة العربية، وتناغمت في أسلوبها مع واقع الحياة الحديثة وإيقاعها. وفي خضم هذه "الحداثة" سبح الكثيرون، ولكن المهم في الأمر هو الغوص، والأهم من هذا وذاك هو إحراز النتائج المضيئة لحركة الحداثة في الشعر العربي.
إن عدد الشعراء الذين يدعون الحداثة كبير جداً، ودواوينهم لا تعد ولا تحصى، فمنهم من كان شعره ساطعاً كشمس الصباح الطامحة في إشراقها وشموخها إلى قمة العطاء الإبداعي، ومنهم من كان شعره كالظل المتنقل مع شمس المغيب، في كل آونة يقترب نحو الزوال، وإذا قرأناه لا نجد فيه شيئاً من الشعر، وإذا بحثنا عن الإبداع فيه كأننا نبحث عن شَعرة سوداء في غرفة مظلمة.
باتت الحاجة ملحة جداً لإعادة النظر في النتاج "الشعري" الذي ظلم الحداثة باسمها، فصار لا بد من الوقوف بجرأة لانتقاد وغربلة الشعر من "اللاشعر"
إذن، باتت الحاجة ملحة جداً لإعادة النظر في هذا النتاج "الشعري" الذي ظلم الحداثة باسمها، فصار لا بد من الوقوف بجرأة لانتقاد وغربلة الشعر من "اللاشعر". لذلك نقول لا بأس إذا جمعنا (الكثير) من هذا النتاج الشعري وصببنا عليه النفط وأحرقناه! لأن هذا (الكثير) مما أنتج، دخل باب الحداثة زوراً تحت شعار التطور "المطّاط" والتجديد في القصيدة العربية، فجاء تقليداً وتصويراً فوتوغرافياً لتجارب الغير، أو سطحياً لا قيمة إبداعية له، أو غامضاً مبهماً يدور في فضاء فارغ مظلم.
هذا القول ليس "هولاكيّ" النزعة للتجنّي على نتاجات بعض الشعراء، بقدر ما هو دعوة لهؤلاء إلى الوقوف بشجاعة أمام المرآة ولو لمرة واحدة، وذلك للحفاظ على القليل من النتاج الحديث وإبداعه الغني عند بعض شعرائنا.
وإذا كان الشعر هو النتاج الإبداعي، ذلك لأنه الاستمرار الفعلي لمسيرة تاريخية ما زالت تبحر نحو الأفق البعيد بهدف إغناء التجربة وشموليتها؛ لذلك فإن المشكلة ليست في مسألة "التحديث" بل لأن الحداثة أكبر بكثير من "القدرات الإبداعية" عند بعض الذين يطرحونها ويخوضون عبابها.
وإذا سلّمنا مع القائلين: "إن الشعر العربي انغلق على نفسه ولم ينفتح على نتاج الأمم الأخرى بشكل فعلي إلا منذ مطلع القرن التاسع عشر"، فهذا لا يعني بالمقابل أن الحداثة "هات إيدك والحقني"، لأنها لا يمكن أن تصدر بمرسوم جمهوري أو بقرار ملكي، وإنما هي نتيجة فكر جديد شامل للحياة، أو بمعنى أدق، نتيجة نظرة فلسفية ومعرفية جديدة شاملة للحياة والكون والفن، وتفتح آفاقاً مميزة للفكر والشعور.
إن الالتزام بهذه النظرة واعتناقها فكرياً، يشكل الأساس الصحيح للحداثة، كما أننا من خلال هذه "النظرة" نستطيع إسقاط "أوراق التوت" عن كل عورات الشعر الطفيلي العقيم عند بعض (الشعراء).