"عودة الشفوية- نهاية الشعر العربي" كتابٌ يضمّ بين دفتيه دراسة نقدية جديدة ومهمّة للكاتب والشاعر السوري خضر الآغا، صدر أخيراً عن دار "المتوسط" في إيطاليا.
يسلّط الآغا الضوء في كتابه على أهم الإشكالات التي واجهتها/ وما زالت تواجهها القصيدة العربية منذ خمسينيات القرن الماضي مروراً باليوم، وساهمت بـ "تخريب مفهوم الشعر في ثقافة القارئ والدارس على حدّ سواء"، بحسب وصف الكاتب الذي يرى أن "قصائد (المجاز واللغة والقضايا) لم تفلح بإنجاز تحقّق شعري يمكن أن يضاف إلى السيرة اللامعة للشعر العربي في مراحله ونماذجه الكبرى".
وعلى عكس ذلك، يتابع الآغا، "ظهرت مجزرة لغوية لم تكن معها إمكانية لاستنطاقها، أو الإصغاء إليها، أو فهمها. فباسم (تفجير اللغة)، واكتشاف بعدها الجوّاني والغائر قُدمت تراكيب بدا من العسير معرفة العلاقة بين الكلمات المتجاورة فيها من جهة، وبينها وبين ما تشير إليه/ ما تود الإشارة إليه من جهة أخرى. وباسم (المجاز) الذي تعتبره أسّ الشعر والكتابة الشعرية غرقت في بحيرات لا نهائية تتصارع فيها الدوالّ مع المدلولات صراعًا عبثيًا لا يفضي ولا ينتهي".
وباسم (القضايا)، يقول الكاتب، أسست وحمت مفاهيم لم يزل النظام الاستبدادي في المنطقة العربية (السوري، على سبيل المثال الدموي) يبني عليها استمراره في السلطة والتسلط والعسف والجور والإجرام ويبني عليها تأبّده أيضًا، من مثل: مواجهة الصهيونية والإمبريالية والرجعية وأدواتها في الداخل وهلم جرّا.
قصائد "آفلة"
تلك القصائد، التي جاءت تحت تلك المسمّيات/ البنود "عجزت عن كتابة موضوعات حرة وشعرية، وحاولت بجهد كبير إعلاء نفسها عن الناس الذين هم -بنظرها- رعاع، ومتخلفون، وجهلة لا يقرؤون، ويفتقدون للثقافة التي تؤهلهم لمجاراة الشعراء الحديثين في عليائهم.." بحسب الآغا.
ويخلص إلى أن قصيدة المجاز واللغة ساهمت بتخريب الشعر العربي، وقدمت نماذج مشوهة للشعر في نسخته الحديثة. لم يقتصر هذا الفشل، أو هذا التخريب الذي قامت به على المرحلة التي نشأت فيها فحسب (خمسينيات وستينيات القرن العشرين)، بل امتد إلى المراحل اللاحقة وأثر على الشعراء الذين واظبوا/ ويواظبون على كتابة هذا الشكل وهذا النوع. فلم تظهر في المراحل اللاحقة إضافات أو انحرافات مؤثرة على قصيدة الحداثة اللغوية تلك، بل بقيت تدور ضمن فلكها ذاته، وإن ظهرت بعض المحاولات لبعض الشعراء في إثارة بعض الشكوك حول تلك القصيدة، فإنها بقيت محاولات فردية، مبعثرة، غير مؤثرة، بل تم النظر إليها بوصفها تنتمي إلى تلك السلالة نفسها.
هذا الأمر يدفعنا للقول إن هذه القصيدة/قصيدة اللغة والمجاز والقضايا وفق النماذج المقدمة حتى الآن هي قصيدة أفِلت.
تجارب شعرية
ويناقش خضر الآغا في دراسته الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط وما ارتبط به من تجارب لأشخاص تأثروا بتجربته الشعرية الرائدة في قصيدة النثر، أطلق عليهم الآغا مسمّى "السلالة الماغوطية" التي أضحت سلالة واسعة الانتشار في الشعر العربي لكنها ورثت عن شعر الماغوط "شكلانية سطحية ولم تستطع أن تكمل الطريقة الخاصة التي انتهجها الماغوط في شعره، إن من حيث عمق موضوعاته غالبًا، أو من حيث جماليته غالبًا في استعمال اللغة".
تأثير التجربة الماغوطية "منعت شاعراً من التأثير في جيله أو الأجيال اللاحقة هو رياض الصالح الحسين. لذلك بقيت تجربة الحسين في مرحلته (سبعينيات القرن الفائت) محصورة ضمن تداول ضيق
وأشار إلى أن تأثير التجربة الماغوطية "منعت شاعراً من التأثير في جيله أو الأجيال اللاحقة هو رياض الصالح الحسين. لذلك بقيت تجربة الحسين في مرحلته (سبعينيات القرن الفائت) محصورة ضمن تداول ضيق"، بالرغم من أن الآغا يرى أن الحسين أيضاً "محسوب على السلالة الماغوطية" وفق بعض الآراء النقدية.
وكثيرة هي القضايا والإشكالات التي تناولها الآغا في دراسته الغنية، والإشكالية أيضًا، حول ما تتعرض له القصيدة العربية اليوم، وحول ما يكتنف العديد من كتّابها (شعرائها) المتأخّرين أيضاً من حالات تخبّط وتشوّش واصطفافات ألقت بظلالها على الشعر العربي وأنماطه ومضامينه.
اقتباس أخير من الكتاب
"الشعر يوجد في القصيدة فقط، أما الشعرية ففي كل مكان ربما، وتكمن المقدرة الشعرية، كاحتمال كبير، في اكتشاف الشعرية المتوغلة في الأشياء. ثمة الكثير من الآراء تقول باستحالة انتهاء الشعر لأنه موجود في تفاصيل الحياة كلها، وطالما الحياة مستمرة فالشعر مستمر.
تنطوي هذه الآراء على عدم التمييز بين الشعر الذي لا يكون إلا في القصيدة، وبين الشعرية التي تكون في غيرها. الشعرية، ربما، لا يمكن أن تنتهي طالما أن الحياة متواصلة، أما الشعر فيمكن أن ينتهي، على الأقل، بسبب العمر، الشعر بوصفه قصيدة.
تكون الشعرية في الرواية والقصة والسينما والمقالة والكتابات الأدبية والفكرية وغيرها. كذلك في الحقول والأماكن والشمس والنجوم وغيرها... وفي الجماليات التي اكتشفها بعضهم في القبح! لذلك فالأجدى والأكثر صحة أن نتكلم عن شعرية في تلك الأشياء، وليس عن شعر".
خضر الآغا
كاتب وشاعر وناقد سوري من مواليد مدينة السلمية بريف حماة 1963، بدأ بالكتابة منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين وصدرت له العديد من الكتب النقدية والدراسات الثقافية، من أهمها كتاب "البياض المهدور: مقدمة للشعر الجديد في سوريا"، و"ثقافة العصيان: قراءات في فكر وحياة بوعلي ياسين"، و"ما بعد الكتابة- نقد أيديولوجيا اللغة" وغيرها.
عمل الآغا مديرًا لتحرير جريدة "شرفات" الثقافية في سوريا التي تأسست عام 2007, كما عمل مديرًا لتحرير مجلة "جسور" المعنية بالترجمة ودراساتها منذ تأسيسها عام 2009 وحتى انتقاله إلى ألمانيا عقب اندلاع الثورة في سوريا.