تساهم الرواية الشعبية لحكاية ما بإعطائها بعدا أسطوريا يتحور ويتطور مع مرور الزمان مدفوعا بعوامل دينية وسياسية واجتماعية، تؤثر ليس في الحكاية فحسب وإنما بالحركة المجتمعية الثقافية بشكل كامل.
الحديث هنا ليس عن ملاحم هوميروس أو أوديب، فبتاريخنا العربي من الحكايات التي تحولت إلى أساطير أثرت في الحركة المجتمعية الإسلامية بشكل عام، وبما أننا بين تاريخين خلدها حدثين مهمين في التاريخ الإسلامي فلا بد من قراءتهما من زاوية الأسطورة.
في الثامن عشر من ذي الحجة عام 35 هـ قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان في يوم الدار بطريقة قد تكون الأغرب والأصعب والأكثر مأساة في التاريخ الإسلامي عند الاطلاع على تفاصيلها وقراءة مرثياتها في كتب التراث.
وفي العاشر من محرم عام 61 هـ قتل الحسين بن علي بن أبي طالب في وقعة كربلاء الشهيرة التي تحولت فيما بعد إلى سردية شعبية بغلاف أسطوري، تفنن غلاة الشيعة لاحقا بنسجها وخصصوا لها مجالس ما بات يعرف بـ "الحسينيات"، ولم يكن السنة أقل شأنا منهم في الحديث "السنّوي" عن هذا المقتل. بخلاف مقتل عثمان الذي لم يتحول إلى حكاية شعبية لدى الطرفين؛ فلا مجالس عزاء ولا قصص تروى وعثمانيّات تُقام.
والسؤال هنا؛ لماذا حضرت الحسينيات وغابت العثمانيات رغم أن مقتل كلا الرجلين شكل تحوّلا مفصليا في مسار تاريخ المسلمين العقدي والسياسي فنشأت على إثر ذلك مذاهب وفرق وقامت دول وزالت أخرى؟
مقتل عثمان بن عفان وتداعياته
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي، يلتقي نسبا بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام في عبد شمس، ولد بعد عام الفيل بست سنوات على المشهور، كان تاجرا كثير المال عزيز النسب محبوبا إلى قريش، حييًّا قليل الكلام مشهور الكرم ويعد من السابقين الأولين في الإسلام. هاجر إلى الحبشة مع المسلمين المستضعفين ثم هاجر إلى المدينة المنورة، وتزوج من بنتي النبي الكريم رقية ولما توفيت تزوج أم كلثوم، وشهد أغلب الغزوات وكان له إسهام مالي في غزوة تبوك حتى يقال إنه جهز جيش العسرة من حر ماله، ولما توفي النبي كان مستشارا لأبي بكر ثم لعمر وله في التراث السني فضائل جمة تطفح بها كتب الحديث.
ولي الخلافة بعد مقتل عمر سنة 23هـ عن طريق الشورى التي حصرت بين ستة هم: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، وعندما تنازل الأربعة عن حقهم في استخلاف عمر حصر الأمر بين علي وعثمان، وأنيط الحكم إلى عبد الرحمن بن عوف الذي استشار واستخار لمدة ثلاثة أيام حتى أنه سأل قادة الأمصار والركبان والفتيات في خدورهن ثم قال كما روي في صحيح البخاري، إني لم أجد أحدا يعدل بعثمان وأعلنه خليفة بعد ثلاث ليال من مقتل عمر وبايعه عامة الناس.
توسعت الدولة في زمانه توسعا كبيرا حتى فتحت ليبيا وغرب تونس، وأرمينيا وجزءا من بلاد الترك، وأصبح المسلمون أسياد البحر المتوسط، وكثر الخير والترف المادي في زمانه.
يقول الحسن البصري وهو شاهد عيان على عصر عثمان: "أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قلّ ما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيرا، يقال لهم: يا معشر المسلمين اغدوا على أعطياتكم، فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم:
اغدوا على أرزاقكم فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم اغدوا على السمن والعسل، الأعطيات جارية، والأرزاق دارة، والعدو متقى، وذات البين حسن، والخير كثير، وما من مؤمن يخاف مؤمنا، ومن لقبه فهو أخوه".
التمرد على عثمان
في السنوات الأخيرة من حكم عثمان كثر جيل التابعين على حساب جيل الصحابة ونشأوا في ظروف دولة قوية كثيرة المال، وحاكم متسامح، فساهم هذا الجو في نشوء تنافس دنيوي وقلة فهم لمقاصد الشريعة، فنبتت نابتة التمرد على عثمان بين أشخاص تنوعت أسباب تمردهم؛ بعضهم أقيمت عليه الحدود فنقم على الولاة، وبعضهم قرأ القرآن ففسره على هواه، وبعضهم ادعى مظلومية من الولاة، حمّلها عثمان سببها.
وهكذا مثل كرة الثلج، بدأ التمرد يكبر ويكثر أتباعه، وتركز في ثلاثة أمصار: مصر والكوفة والبصرة، وأصبح بين المتمردين تواصل وتنسيق، لاندلاع ثورة مسلحة، فساروا من الأمصار الثلاثة باتجاه المدينة المنورة في موسم الحج وعددهم على المشهور قرابة ثلاثة آلاف دخلوا المدينة وحاصروها وحصلت أمور عظام يضيق المقام عن التفصيل بها، ولكن موطن الشاهد أنهم حاصروا دار عثمان لمدة أربعين يوما ومنعوه الخروج إلى المسجد ومنعوا عنه الطعام والماء إلى ما كان يصله خفية من بعض الصحابة.
منع عثمان الصحابة من القتال دونه وشدد عليهم في ذلك مسلما لقضاء الله وقدره، فاقتحم المتمردون داره وأحرقوها وقتلوه بضربات كثيرة ترقى إلى التمثيل بجثته ثم انتهبوا الدار ومالوا إلى بيت مال المسلمين فانتهبوها وتركت المدينة على تلك الحال أيام عدة يحكمها المتمردون، ثم إنهم ألحوا على الزبير وطلحة وعلي لاستلام منصب الخلافة، رفض طلحة والزبير هذا الأمر وقبل به علي فأصبح خليفة منزوع الصلاحيات الحقيقية كما يقول هو، حيث ورد في تاريخ المدينة لابن شبة وغيره من كتب التراث، أن علياً قال: "هم قوم يملكوننا ولا نملكهم".
طريقة قتل عثمان زادت الأمور خلافا وفتحت باب شر عظيم كما يقول الصحابي عبد الله بن سلام، وعزم الجميع على وجوب أخذ الثأر لعثمان، إلا ما كان من علي وبعض الصحابة، حينما رأوا تهدئة الأمور وتسكينها أولا ثم الاقتصاص من القتلة.
جر مقتل عثمان معركة الجمل وصفين ثم عام الجماعة بتنازل الحسن بن علي لمعاوية بن أبي سفيان على الخلافة سنة 40هـ.
مقتل الحسين
أخذ معاوية بن أبي سفيان ولاية العهد لابن يزيد في حياته فرضي وكره البعض لهذه البيعة ورفضها، وأشهرهم عبد الله بن الزبير والحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعندما توفي معاوية قرر عبد الرحمن بن أبي بكر الفرار والاعتزال وعدم مبايعة يزيد، أما عبد الله بن الزبير، فلقد اعتصم بمكة وأعلن التمرد على يزيد، بينما الحسين اختار الذهاب إلى الكوفة بعد أن جاءته الكتب من هناك بمبايعته على الخلافة وقتال يزيد، فسار بأهله حتى وصل موقع كربلاء قريبا من الكوفة، والتقى بجيش عبيد الله بن زياد بقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص، وبعد مراسلات فاشلة بين الطرفين للوصول إلى تسوية تجنبهم الحرب، أعلن جيش عمر بن سعد الحرب وأنشب القتال فعليًا شمر بن الجوشن ودرات معركة غير متكافئة قتل بها الحسين مع نحو عشرين من أهله.
بين المقتلين
تفاصيل مقتل الحسين أغلبها تدور حول رواية لوط بن يحيى المتهم عند غالبية علماء الدين المسلمين بالكذب، وبأن ما رواه عن الحادثة أشبه بالعجائب والغرائب والأساطير، لكن الناس لهول الصدمة تلقوها وقبلوها وزادوا بها. إلا أن ما جرى مع عثمان رغم شهرته وكثرة شهود العيان على المقتل لم يأخذ هذا الصدى في الثقافة الشعبية الإسلامية، لتصبح قصة مقتل الحسين دون غيرها هي المفصل التاريخي في وجدان أمة الإسلام دون غيرها، والحقيقة أن هذا الشيء جر عليها الويلات عبر العصور، ووضع المسلمون السنة أنفسهم في موطن رفع التهمة وبراءتهم من مقتل الحسين، وسيقوا من حيث لم يشعروا إلى فخ تسفيه التاريخ وتزويره، وإلا ما الذي جعل من مقتل الحسين المفصل التاريخي رغم أنه قتل في معركة مثله مثل طلحة والزبير وغيرهم، خلافا لمقتل عثمان الذي لم يرفع السيف ضد أحد أصلا وكان مقتله أول شرخ في جسد الأمة؟
ولو قيست الأمور بالأعمال لما أحصينا مآثر عثمان من جمع الناس على قرآن واحد وتوسيع رقعة الدولة وحسن التنظيم الإداري للبلاد والرفاهية الاقتصادية، خلافا للحسين الذي حتى في كتب الشيعة لا يعرف من سيرته أكثر من تفاصيل مقتله.
هذه الأطروحة ليس هدفها المقارنة بين الرجلين، ولا المطالبة بطرح مظلومية ولطميّة "عثمانية" سنّية تشابه المظلومية واللطمية "الحسينية" عند الشيعة، وإنما هي من باب التساؤل عن سبب استمرار ذبح المسلمين السنة باسم المظلومية المقدسة عند الآخر، وما جرى ويجري في سوريا والعراق شاهد على ذلك.