تتدافع في الأيام الأخيرة المبادرات والمشاريع بخصوص سوريا في إشارة لاقتراب التصارع بين الدول الإقليمية والدولية عليها، ومن جهة أخرى توقف آلة القتل التي يديرها النظام بحق السوريين، أو لبدء صراع أكبر. وما حرك الأمر أكثر أولاً هو قرار ترمب سحب القوات الأميركية من سوريا، سواء بشكل سريع أو بطيء، الأمر الذي سيترك فراغاً لا بد من ملئه، وثانياً رغبة روسيا في تحقيق استقرار سياسي بعد نصرها أو تدميرها العسكري.
تميزت نهاية عام 2018 بحدثين مهمين، الأول قرار ترمب بالإعلان عن سحب القوات الأميركية، والثاني تسارع الدول العربية في موجة هوجاء لإعادة العلاقات الدبلوماسية والسياسية مع نظام الأسد، فالأول، واستكمالاً لسياسة إدارة أوباما، رأى عدم جدوى وفائدة من الحروب الخارجية التي تخوضها الولايات المتحدة في الخارج، وخاصة في الشرق الأوسط، بعد الفشل في تجربة أفغانستان -حيث تسعى الإدارة حالياً لإجراء مفاوضات مع حركة طالبان من أجل التشارك بالحكومة بشرط ألا تكون أفغانستان قاعدة لهجمات الحركة والتنظيمات الجهادية تجاه الغرب-، وعدم النجاح في بناء نظام ديمقراطي مستقر في العراق. أما الدول العربية التي تزعمت الثورة المضادة للربيع العربي، فقررت العودة تحت ذريعة محاربة النفوذين الإيراني والتركي.
تميزت نهاية عام 2018 بحدثين مهمين، الأول قرار ترمب بالإعلان عن سحب القوات الأميركية، والثاني تسارع الدول العربية في موجة هوجاء لإعادة العلاقات الدبلوماسية والسياسية مع نظام الأسد
أتى الرد الدولي والإقليمي على هذين الحدثين من روسيا وتركيا، فروسيا رحبت بقرار الأول وشجعت الدول الأخرى على إعادة العلاقات مع نظام الأسد، بحجة عودة الاستقرار والبدء في إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، وهو الأمر الذي يشكل معضلة اقتصادية واجتماعية وسياسية لكثير من الدول التي يوجد فيها لاجئون سوريون، أما تركيا، فقد رحبت بقرار ترمب من جهة، ولكنها وجدت نفسها في ورطة، فهي لا تستطيع الدخول إلى سوريا ومهاجمة قوات حزب الاتحاد الديمقراطي سواء في منبج، أو شرق الفرات، كونها فرع من منظمة إرهابية في بلادها، والتي تعدّها قضية أمن قومي، من دون موافقة روسيا بوتين، الشريك والخصم.
أتت زيارة أردوغان، الرئيس التركي، لروسيا في الأسبوع الماضي للبحث عن حل لتلك المعضلة، فتركيا تسعى لتأمين توافق أميركي وروسي لدخولها، وهو أمر في غاية الصعوبة، فكانت فكرة إعادة إحياء العمل باتفاقية أضنة للعام ،1998 التي وُقعت بين تركيا وسوريا في أعقاب التوترات التي كادت أن تصل لشن حرب على سوريا لإيوائها أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، والسماح له بإقامة معسكرات في سوريا ولبنان، والتي قضت بإخراج أوجلان من سوريا، وعدم السماح لحزبه بالعمل انطلاقاً من الأراضي السورية، والتعهد لتركيا بمحاربة الإرهاب، وحق تركيا بملاحقة الإرهابيين داخل الأراضي السورية لعمق (5) كيلومترات.
يكمن المغزى الروسي الخبيث في هذا الطرح، أمريين: الأول رفض فكرة المنطقة الآمنة التي يمكن لتركيا والولايات المتحدة إقامتها، التي يمكن أن تكون سبباً لعودة اللاجئين، وتشكل منطقة إعمار وازدهار اقتصادي خارج سيطرة الروس ومشاريعهم، والأمر الثاني، وهو الأكثر أهمية بالنسبة لروسيا، هو إضفاء الشرعية على نظام الأسد من قبل تركيا، من خلال الدخول من الباب الخلفي، أي إضفاء الشرعية على الوجود التركي في سوريا، وبالتالي لا بد من إعادة العلاقات بين الدولتين لضرورات التنسيق الأمني والدبلوماسي بينهما.
يبدو أن خيار المنطقة الآمنة أقل رجحاناً على أرض الواقع، نظراً لتردد الإدارات الأميركية التي عاصرت الثورة السورية وحرب النظام على السوريين، وقناعتها بعدم جدوى التدخلات الخارجية، والتي عبر عنها ترمب صراحة بأن سوريا ليست سوى أرض رمال، أي يمكن لمن سيتدخل فيها أن يغوص بين رمالها ويصعب عليه الخروج منتصراً، وأما علاقته بقوات وحدات الحماية الشعبية فهي قامت على أساس تعاقدي واضح وهو محاربة التنظيمات الإرهابية وخاصة داعش، ومن وجهة نظر الإدارة فقد هُزمت داعش، ويبقى أمر ترتيب علاقة ما تحمي تلك القوات الكردية مع الروس والنظام، وهو أمر تجري بشأنه المحادثات.
خيار اتفاقية أضنة، يبدو الخيار الأكثر قابلية للحياة مع إدخال بعض الملاحق فيها بما يتناسب مع الظروف السياسية الحالية
خيار اتفاقية أضنة، يبدو الخيار الأكثر قابلية للحياة مع إدخال بعض الملاحق فيها بما يتناسب مع الظروف السياسية الحالية، فهناك مناخ دولي وإقليمي يُصوّر قرب نهاية "الحرب" وانتصار نظام الأسد فيها، كما لها سند قانوني مما يجعل دخول القوات التركية شرعياً وفق القانون الدولي، والمهم في الأمر، من وراء اتفاقية أضنة في هذا الوقت، إبعاد إيران عن العملية، وهو أمر يلاقي دعماً دولياً (الولايات المتحدة)، كما يلاقي دعماً وتشجيعاً من إسرائيل التي لا تتوانى عن ضرب الأهداف الإيرانية في سوريا، والتي تمكنت من فرض اتفاق مع الروس يقضي بإبعاد الإيرانيين عن الحدود بين سوريا وإسرائيل لمسافة (60) ميلاً.
كما تكشف الاشتباكات الأخيرة بين الفيلق الخامس الذي شكلته روسيا في سوريا، مع قوات الفرقة الرابعة، التي ضمت الكثير من عناصر الميليشيات الإيرانية فيها عن رغبة روسيا بالقيام بتحجيم الدور الإيراني في سوريا وإنهاء الممارسات البغيضة للميليشيات الطائفية، ناهيك عن قيامها بترتيب ما في قيادات الجيش والأفرع المخابراتية لغير صالح الإيرانيين، وهو أمر جدي يلاقي ترحيباً محلياً وإقليمياً ودولياً، يمكن أن يجلب لروسيا ما تطلبه من أموال ودعم في إعادة الإعمار، ناهيك عن إعادة اللاجئين. ولتركيا مصلحة مباشرة في الحد من النفوذ الإيراني كونه معرقل لكثير من الاتفاقيات كما للسوريين عموماً.
كما تخشى تركيا من عودة دول الخليج ممثلة بالسعودية والإمارات ومن ورائهما مصر، وهي الدول التي تعلن رفضها وعداءها للدور التركي، ولربما أكثر من الإيراني، مما يوجب عليها إيجاد صيغة ما مع الروس تضمن ترتيباً يحقق مصالحها في سوريا، ويحمي حدودها الجنوبية، ولن يكون نظام الأسد معترضاً على صيغة كهذه.
أما السوريون، الذين شردتهم الحرب، وقتلت حوالي المليون منهم، إضافة لمئات الآلاف من المعتقلين، بعد أن هُمش دورهم لأسباب عديدة، لا بد لهم من قراءة الوقائع الحالية بعقل منفتح يتجاوز الاستقطابات التي كانت سائدة عام 2011، بدلاً من انتظار ما سيحل بهم جراء تلك التصارعات الدولية والإقليمية، فإمكانيات التغيير ما زالت قائمة، ولا بد من تغيير وسائلها وأدواتها، فكل ما جرى في سوريا لا يمكن القفز من فوقه من دون سلوك درب إنهاء معاناة السوريين، في مسعاهم للخلاص من مشروع هلاكهم.