في مطلع صيف 1940م، تمكّنت القوات الألمانية من دخول العاصمة الفرنسية "باريس"، في تلك الفترة كانت سوريا وعاصمتها دمشق تحت الاحتلال الفرنسي، يومها كتب صحفي سوري مقالاً في صحيفة دمشقية وعنونه "فرنسا اللهم وشماتة".
بعد أن تمكّن حافظ الأسد من زج المجتمع السوري بكامله في بوتقة الرعب، وحوّل سوريا إلى مملكة الصمت، واطمأن إلى أن أجهزة القمع التي بناها كما يريد، أصبحت قادرة على سحق أي معارضة حقيقية، أوعز لهذه الأجهزة بأن تتغاضى قليلاً عن مساحة ضيقة من النقد، يمكن لبعض الأصوات الثقافية أو السياسية أن تلعب فيها ما سمي زوراً على أنه "مساحة للمعارضة".
في تلك المساحة الرمادية المُلتبسة، الضيقة والمراقبة جيداً اعتاشت أسماء كثيرة، منها ما كان بالفعل معارضاً، لكنه فهم اللعبة وآثر أن يكتفي بهذه المساحة خوفاً، أو قرر أن يتجاوزها فسجن أو هُدّد أو هُجّر، ومنها ما كان مطلوباً منه أن يلعب دور المعارضة، فاستوطن في هذه المساحة، لنكتشف بعد انفجار السوريين ضد السلطة الأسدية أن هؤلاء هم أشد أفراد المجتمع السوري ولاء لعائلة الأسد.
كل كلمة تقال يجب أن لا تخرج أبداً خارج المقولات التي عُمِمت، وأصبحت تكرر عند جميع السوريين الموالين، كأنها فاتحة صلاة
اليوم وبعد أن أصبحت سلطة عائلة الأسد في خطر حقيقي، لم تعد قادرة على ترك هذه المساحة الرمادية، ولم تعد ممارسة الفروسية "الدونكيشوتية" والمعارضة الزائفة، متاحة لعشاق الاستعراض الزائف، وأصبح الولاء الكامل الذي لا تشوبه أي شائبة هو فرض عين على كل سوري، وكل كلمة تقال يجب أن لا تخرج أبداً خارج المقولات التي عُمِمت، وأصبحت تكرر عند جميع السوريين الموالين، كأنها فاتحة صلاة.
في مقابلة إذاعية مع راديو المدينة تمت مؤخراً، حاول الممثل السوري المعروف "عباس النوري" أن يتذاكى قليلاً، فلم يقترب أبداً من مسؤولية عائلة الأسد عن كل ما حلَّ بسوريا، وحاول جاهداً حل المعضلة التي تواجه أي متحدث موال عند تناول الحدث السوري، معضلة أن الحقائق الفاقعة أصبح من الصعب تجاوزها، وأن الكذب والمواربة والذهاب إلى المفردات الغائمة التي تحتمل أكثر من تفسير، أصبح مفضوحا، حتى في أشد البيئات السورية تعصباً وولاء لحكم الأسد، فحاول بتحايلات كثيرة أن يقول رأيا متبايناً، ولو قليلا مع السائد المسموح به، فتحدث عن مناخ انتهازي عام سائد، وتحدّث عن عقول سورية مبدعة كثيرة، تدرك حقيقة وعمق ما يحدث في سوريا وأسبابه، لكنّها اضطرت إما أن تسكت، أو أن ترحل.
لكن الأخطر في ما قاله عباس النوري، وما تسبب في تسونامي من الشتائم والاتهامات، اجتاح الصفحات المؤيدة، هو حديثه عن الحريات في سوريا، واعتباره أن هناك تراجعا كبيرا في مستوى الحريات في سوريا عن الدول الأخرى، وعندما حاول المذيع أن ينقذه من ورطته، ويدفع كعادة الإعلاميين السوريين بالمقارنة المكرورة والممجوجة مع دول الخليج إلى الواجهة، متوقعاً أن يحتمي عباس النوري بها، ويقول إن الحريات في سوريا هي أفضل بالتأكيد من دول الخليج، جاء رد النوري مفاجئاً، بأن الحريات حتى في دول الخليج هي أفضل منها في سوريا.
لا داعي للحديث مطولاً، عما حدث بعد بث اللقاء، فقد قامت الدنيا ولم تقعد، وتم حذف المقابلة، وبدأت صفحات الموالاة تتنافس في ممارسة تشبيحها المتعارف عليه ضد أي مختلف، وراحت الاتهامات تنهمر من كل الجهات، متهّمة النوري بالجحود ونكران الجميل، وهو الذي تعلم وأكل ودرس وتنفس من عطاءات السيد الرئيس، وذهب بعضها منتهزاً الفرصة كي يثبت أنه أكثر غيرة ووطنية وتشبيحاً إلى حد اتهام النوري بالخيانة، لأنه برأيها لا يوجد وطني شريف في سوريا يتجاهل المؤامرة الكونية وحكمة السيد الرئيس، أو يتنكر لبطولات الجيش السوري.
لكن السؤال الذي يُلقي بثقله على من تابع حديث النوري، ومن يسمع ببعض الأحاديث التي غيرت من نبرتها، والتي راحت تصدر مؤخراً عن بعض الشخصيات المعروفة بتأييدها للنظام السوري، هو ما الذي استجد ليتجرأ هؤلاء على الكلام، وعلى الخروج عما هو مسموح به، وهل يحتاج الأمر إلى كل ما جرى لكي يكتشف هؤلاء حقيقة النظام السوري، الذي لم يعد يختلف اثنان حول طبيعته، وتركيبته؟
لا يحتاج لأن تكون معارضاً حقيقياً للنظام السوري، أن تنتظر حتى اليوم لتستنتج في أي جهة يجب أن تكون، ولا يحتاج الأمر إلى قراءة التاريخ والجغرافيا والاقتصاد، ولا إلى أن تكون خبيراً في السياسة أو تفرعاتها، كل ما يحتاجه الأمر هو قليل من الضمير المسؤول، فهذا النظام لم يدمر سوريا، ولم يقوض كل إمكاناتها، ويزج بها في مهب الخراب خلال سنوات الثورة السورية فقط، إنه يفعل هذا منذ عقود، بكل تصميم ومنهجية، ويكفي لمن يريد أن يرى فعلا أن يقرأ الأشهر الثلاثة الأولى من عمر الثورة السورية، لكي يعي جيداً إلى أي جحيم تعمّد النظام السوري أن يقود سوريا إليه.
في اللحظات الفاصلة في تاريخ الشعوب، يُصبح من الحماقة الاحتماء بأنصاف المواقف، والمخاتلة الانتهازية التي يمكن الاكتفاء بإدانتها في الزمن العادي، تصبح خيانة في لحظة الثورة، فإما أن تتحمل مسؤوليتك كما ينبغي أو التزم الصمت.
كم كنت بائساً وأنت تعتذر وتُبدي الأسف، ثم تكرر المفردات المقررة والمعممة على كل الموالين والمقتصرة على: الانتصار، والمؤامرة الكونية، وبطولات الجيش السوري، وحكمة السيد الرئيس وعبقريته
عباس النوري، وأنت الذي كررت مراراً في حديثك لإذاعة المدينة كلمة "اقرأ"، وشرحتها بأبعادها الأخرى، كان حريا بك أنت أن "تقرأ"، وكان حرياً بك أن تغادر رماديتك المقيتة إلى لون أشد وضوحاً، أو أن تصمت.
معظم السوريين توقعوا أنك سوف تعتذر عما فعلت، ولم يطل الوقت حتى اعتذرت، كم كنت بائساً وأنت تعتذر وتُبدي الأسف، ثم تكرر المفردات المقررة والمعممة على كل الموالين والمقتصرة على: الانتصار، والمؤامرة الكونية، وبطولات الجيش السوري، وحكمة السيد الرئيس وعبقريته.
سأذكرك في الختام بأن الجيش الذي تنسب له فضل حمايتك وحماية منزلك وأسرتك واستمرارك على قيد الحياة، هو نفسه الذي هدم بيوت مئات آلاف السوريين فوق رؤوسهم، وهو نفسه الذي سرق أملاكهم، وقتل أطفالهم، واستعمل ضدهم حتى الأسلحة المحرمة دولياً.
عباس النوري.. وأنت تجتر خيبتك، سأقول لك: اللهم وشماتة.