يجلس رئيس النظام السوري بشار الأسد، وحيدا على كرسيه بعيدا عن "محور المقاومة" الذي تقوده إيران، على أمل أن تدفع له الدول العربية والغربية ثمن عزوفه عن فتح "جبهة إسناد" لغزة وحزب الله اللبناني، وإضعافه استراتيجية "الدفاع الأمامي" لطهران بعد عام من العدوان الإسرائيلي على غزة، والذي ينتهي بضربات قد تكون قاصمة لحزب الله بعد اغتيال أمينه العام وتكثيف الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية.
كيف سيستغل النظام "حياده" سياسيا؟
كان آخر اجتماع للجنة الاتصال العربية الوزارية المعنية بسوريا في 11 من أيلول الفائت في مقر الأمانة العامة للجامعة العربية، على هامش اجتماع وزراء الخارجية العرب في العاصمة المصرية القاهرة.
وفي بيان لها، قالت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية إن لجنة الاتصال العربية المعنية بسوريا "قررت تشكيل فريق من الخبراء لدراسة الموضوعات التي تتابعها مع النظام السوري"، مشيرة إلى أن اللجنة توافقت على أن يكون اجتماعها المقبل في العاصمة العراقية بغداد، في موعد يحدد لاحقاً، وكان العرب قد فشلوا في جر النظام إلى حضنهم ودفعه لوقف توريد الكبتاغون والأسلحة إلى أراضيهم.
يحاول بشار الأسد اليوم الاستفادة من الحرب في غزة من أجل إعادة تنشيط جهود التطبيع مع دول الخليج بشكل خاص والدول العربية بشكل عام، وخاصة بعد افتتاح السفارة السعودية في دمشق أخيرا.
ويسعى النظام السوري لرفع العقوبات المفروضة عليه أو تخفيفها على الأقل، مما يدفع الدول المطبعة وخاصة الإمارات العربية المتحدة للاستثمار في إعادة الإعمار، كما تعزز الحرب في غزة ولبنان جهود بشار الأسد للخروج من دائرة النبذ.
وكانت الإمارات قد حذرت النظام السوري من التدخل في الحرب الدائرة بين حماس وإسرائيل، أو السماح بشن هجمات على "إسرائيل" من الأراضي السورية، بحسب ما نقل موقع أكسيوس الأميركي عن مصادر مطلعة على الجهود الدبلوماسية الإماراتية، في 9 من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وبحسب الموقع وجه المسؤولون الإماراتيون رسائلهم إلى شخصيات رفيعة المستوى من النظام وأطلعوا إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على اتصالاتهم مع السوريين، وكانت واشنطن قد حذرت إيران من استهداف قواتها الموجودة في سوريا مع تصاعد العداون على غزة.
وقالت مصادر سياسية لبنانية رفيعة لتلفزيون سوريا في أيار الماضي، إنّ النظام يوحي في أروقة الجامعة العربية ولجانها أنه قرر التمايز عن الموقف الإيراني وسيعمل على تخفيف الحضور الإيراني والعمل على إعادة التموضع والحضور للوجود الإيراني في مختلف المناطق السورية والطلب بسحب الميليشيات غير النظامية من مداخل المدن.
وتشير المعلومات أن الدبلوماسيين التابعين لوزارة خارجية النظام السوري يشدّدون في كل لقاءاتهم أنهم لم يعودوا جزءا مباشرا من محور الممانعة، وأن النظام لا يتوافق مع المنطلقات الفكرية لحركة حماس وأنه ملتزم بمبدأ فصل الساحات بدليل أن سوريا لم تنخرط في المعركة.
أما غربيا فيسعى النظام إلى استغلال الحرب الدائرة كفرصة لإعادة العلاقات مع الغرب، ويطمح إلى عملية تطبيع مماثلة لما حدث مع بعض الدول العربية.
وقال مصدر دبلوماسي أوروبي لـ "تلفزيون سوريا"، في نيسان الفائت إن رئيس المخابرات الرومانية زار سوريا والتقى رئيس النظام بشار الأسد ومدير المخابرات السورية حسام لوقا.
وأضاف الدبلوماسي الأوروبي، طالباً عدم الكشف عن اسمه، أن رئيس المخابرات الرومانية حمل معه رسالة مشتركة من بلاده ومن قبرص واليونان وإيطاليا تشير إلى حرص هذه الدول على إعادة الاتصال مع النظام بسبب قلقها من موجات اللاجئين والخوف من "الإرهاب".
وبدأت حكومات أوروبية تتذرع بأزمة اللاجئين، حديثا سريا مع النظام على مستوى الاستخبارات، مع تركز الاهتمام الدولي على أوكرانيا وغزة، في حين أصبح نظام الأسد وسوريا صراعا منسيا إلى حد ما.
وفي خضم العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، أقر الأسد بوجود لقاءات عرضية مع الولايات المتحدة من دون التوصل إلى شيء، بحسب وكالة أنباء النظام الرسمية (سانا) في 21 من أبريل/نيسان 2024.
وردا على سؤال حول ما إذا كانت هناك فرصة طويلة الأمد للحوار مع الغرب، قال رئيس النظام: "هناك دائما أمل: حتى عندما نعرف أنه لن تكون هناك نتائج يجب أن نحاول"، لأن "السياسة هي فن الممكن".
إسرائيل تقصف في العمق
ومن المرجح أن أي ضربات تستهدف قوات النظام، في حال اصطدامها بـ إسرائيل، من شأنها أن تضعف الأسد نفسه، مما يشكل تهديداً مباشراً لمستقبله في السلطة.
وقد تعرضت مواقع تابعة لقوات النظام والميليشيات الإيرانية في محافظتي حمص ودير الزور لقصف جوي، ليلة السبت/الأحد الماضية، وهو الثاني من نوعه خلال ساعات.
وذكرت صفحات مقربة من الميليشيات الإيرانية في سوريا أن طائرة مسيّرة إسرائيلية نفذت هجوماً على موقع في منطقة القصير بريف حمص الجنوبي، في حين قالت مصادر محلية إن الغارة استهدفت سيارة يُعتقد أنها تابعة لـ"حزب الله".
ويُشار إلى أن إسرائيل كثّفت عقب شن العدوان على لبنان من غاراتها التي تستهدف بشكل خاص قيادات ومواقع لـ"حزب الله"، إذ شنت الأسبوع الفائت عدة هجمات أسفرت إحداها عن مقتل حسن جعفر قصير، صهر حسن نصر الله، في منطقة المزة فيلات غربية في دمشق.
وشنت طائرات إسرائيلية غارات على الطريق الدولي بين معبري جديدة يابوس والمصنع على الحدود السورية اللبنانية، ما أسفر عن قطع الطريق في الاتجاهين.
وفي دير الزور، أفادت وكالة "سبوتنيك" الروسية بسماع دوي انفجارات ناجمة عن استهداف طائرة مسيّرة تابعة لقوات التحالف الدولي مواقع في منطقة عياش بالريف الغربي، مضيفة أنه لا توجد معلومات عن حجم الأضرار.
استثمار النزوح العكسي إلى سوريا
حذّر مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، غير بيدرسن، أخيرا، من تأثير تصاعد الصراع الإقليمي على سوريا، بما في ذلك استمرار الضربات الإسرائيلية.
وفي بيان له، جدد المبعوث الأممي دعوة الأمين العام للأمم المتحدة من أجل وقف إطلاق النار في غزة، ووقف الأعمال العدائية في لبنان، مشيراً إلى أن ذلك يأتي "بعد أن حذر مراراً وتكراراً من تداعيات تصعيد الصراع الإقليمي على سوريا والسوريين".
وأعرب بيدرسن عن "قلقه العميق" إزاء الارتفاع الحاد في التوترات في المنطقة في الأيام الأخيرة، بما في ذلك استمرار الضربات الإسرائيلية على سوريا.
وأكد على "هشاشة وضع عشرات الآلاف من السوريين، الذين تم تهجيرهم عدة مرات، والذين يفرون مرة أخرى طلباً للنجاة، يواجهون موجات جديدة من المعاناة".
في سياق ذلك، حذّر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" من تأثير استمرار الأعمال العدائية في المنطقة على سوريا، مطالباً جميع الأطراف باحترام التزاماتها بموجب القانون الدولي.
وفي تقريره اليومي، ذكر "أوتشا" أن الغارات الإسرائيلية على دمشق، الثلاثاء، كانت على بعد نصف كيلومتر من عدة مكاتب للأمم المتحدة، وأسفرت عن مقتل مدنيين في دمشق، كما سقط صاروخان على بعد 120 متراً من مكاتب الأمم المتحدة في دمشق.
وأشار إلى الهجوم الذي طال المناطق المحيطة بالعديد من المعابر الحدودية في محافظتي حمص وريف دمشق، موضحاً أن أحدها يقع على بعد كيلومتر واحد من فرق الأمم المتحدة وشركائها التي تستجيب لتدفق العائلات السورية واللبنانية العابرة إلى سوريا.
وأضاف التقرير أن الغارات الجوية الإسرائيلية على محافظتي درعا والسويداء جنوبي سوريا، الأربعاء، أدت إلى حدوث اضطرابات مؤقتة في بعض الأنشطة الإنسانية.
ويتمتع النظام بقدرته على استغلال الكوارث، على غرار ما حدث عقب زلزال شباط إذ انهالت عليه المساعدات الإنسانية، والتي كانت باباً للتطبيع، وهو ما سيحاول استغلاله مع تزايد توافد اللاجئين السوريين والنازحين اللبنانيين الفارين من القصف الإسرائيلي.
ووفقا للسلطات اللبنانية، عبر 235 ألف شخص الحدود بين البلدين، بما في ذلك 82 ألف لبناني و152 ألف سوري، في الفترة ما بين 21 أيلول/سبتمبر ويوم الخميس 3 تشرين الأول/أكتوبر. بالإضافة إلى ذلك، غادر حوالي 50 ألف شخص من مطار بيروت، بما في ذلك عشرة آلاف سوري، وفر 1060 شخصا أيضا عن طريق البحر.
ما مصير استراتيجية "الدفاع الأمامي" الإيرانية؟
قدرت دراسة بعنوان (شبكات التسلل الإيرانية في الشرق الأوسط) نُشرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 إجمالي إنفاق إيران على ميليشياتها في سوريا والعراق واليمن بحوالي 16 مليار دولار سنويا، في حين تنفق طهران حوالي 700 مليون دولار سنويا لدعم حزب الله اللبناني، الذي يشكل خط الدفاع الأول لمواجهة إسرائيل شمالا، وهو الذي يواجه اليوم حربا إسرائيلية شرسة عقب اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله، وتركه وحيدا في الساحة.
وبحسب المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) فإنّ الأهمية الاستراتيجية لإيران عبر شبكاتها وميليشياتها تتمثّل بـ: استمرارية الممر البري من طهران إلى بيروت، والسيطرة على شواطئ البحر المتوسط، وعقد اتفاقيات مع النظام السوري لعقود قادمة، والسيطرة على قطاعات الصحة والكهرباء والغذاء والتمويل، وتوسيع نطاق الدعم الإيراني "الاستشاري والمالي والعسكري" إذ قدمت إيران لنظام الأسد، بحسب وثيقة صادرة عن الشؤون الرئاسية الإيرانية سربتها جماعة "خلق" المعارضة، ديونًا تحت اسم الدولة السورية قدرت بـ 50 مليار دولار، شملت صفقات سلاح، وقروضا مالية، وخطوط ائتمان نفطية. وكان من ضمن التسريبات مبادئ اتفاقية "الاستراتيجية الشاملة" التي وقعها الرئيس رئيسي قبل وفاته في أثناء زيارته لسوريا عام 2023 مع بشار الأسد. وتضمنت الاتفاقية أن 18 مليار دولار من الديون سيتم استردادها على شكل اتفاقيات واستثمارات اقتصادية لطهران على الأراضي السورية.
وعلى الرغم من تعدّد النقاط والقواعد الإيرانية بسوريا، إلا أنّ محافظة دير الزور تعد أهمّها لأسباب متعددة إذ تشكل الجسر الرابط للميليشيات الإيرانية بين سوريا والعراق في محيط نهر الفرات، ولذلك في حال ضعفت أو فقد الإيرانيون هذه النقطة سيكون من المستحيل العثور على ممر من طهران إلى ساحل البحر المتوسط، خاصة مع احتفاظ الولايات المتحدة بوجود عسكري في قاعدة "التنف".
وتشكل لبنان وسوريا ساحتين مركزيتين لاستراتيجية "الدفاع الأمامي" الإيرانية، إلا أن حياد النظام أحدث خرقاً في هذه الاستراتيجية، على المستوى العسكري والأمني، خاصة مع اتهام طهران النظام بتسريب معلومات أدت إلى اغتيال قادة كبار في الحرس الثوري على الأراضي السورية، وقصف القنصلية في دمشق.
كذلك ارتدت حرب غزة على القواعد الأميركية شمال شرقي سوريا، إذ أصبحت أهدافا للميليشيات الإيرانية، ويشير معهد تشاتام هاوس إلى أن الانسحاب الأميركي من سوريا لن يكون خيار سهلا لأي إدارة أميركية عقب حرب غزة وفي المستقبل القريب.
ومع تزايد خطر الحرب بين إيران من جهة وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، تزايدت أهمية سوريا ولبنان باعتبارهما مصالح استراتيجية إيرانية أساسية. وكان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي قد زار لبنان ولاحقا دمشق في زيارة غير معلنة، إذ التقى ببشار الأسد، وخرج الطرفان بتصريحات "عامة" عن الرد الإيراني ونجاعته واستعداد طهران للمواجهة، بعد أن أمّ المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي صلاة الجمعة وإلى جانبه بندقية كتقليد على محاربة الأعداء.
وقال الباحث في معهد الشرق الأوسط، الدكتور سمير التقي، لتلفزيون سوريا إن هدف الزيارة هو لملمة تحالف "المقاومة" بسبب التصدعات الحتمية التي حدثت فيه.
ومع تهديد إسرائيل بضرب طهران في عقر دراها، تنظر الأخيرة إلى تحالفاتها في سوريا ولبنان باعتبارها حجر الزاوية لمواجهة محاولة عزلها قبل التفرغ لها، فهل تعيد الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة ولبنان إشعال الصراعات الإقليمية الكامنة في الساحة السورية وتعيد النظام السوري إلى المحور المشتعل؟