icon
التغطية الحية

"عازف الغيوم" في إسطنبول

2022.09.08 | 13:26 دمشق

غيوم
عبد الله ديب
+A
حجم الخط
-A

صدرت رواية "عازف الغيوم" عام 2016 للكاتب والروائي العراقي علي بدر عن منشورات دار المتوسط. وتدور أحداث الرواية حول نبيل، الشاب العراقي العازف على آلة الـ "تشيللو"، وشغفه بالموسيقا الذي جعله يرى العالم من خلالها.

شاب رومنسي حالم متأثر بالفلسفة الغربية، ومع انهيار الدولة العراقية وصعود قوى أصولية تسيطر على بغداد وبعد معاناته المريرة مع هذه القوى وجيرانه وتعرضه للإذلال والإهانة وتكسير آلته الموسيقية، قرر الهروب من جحيم العراق إلى بلجيكا عن طريق أحد المهربين.

من بغداد إلى بروكسل

نجح بطل الرواية في الوصول إلى بلجيكا، لكن يا للمفاجأة، إنها ليست "بروكسل المتخيّلة"، إنها مدينة غير تلك التي رسمها في خياله، لقد صدم أن فيها عرباً وأتراكاً ومغاربةً ومسلمين كُثراً. لم يرق له أن يجد "هؤلاء" هناك، فهو أساسًا هرب منهم، إنه يحتقر كل ما يمثله هؤلاء، ويؤمن بطريقة ما، أنه من "هنا" وليس من "هناك".

ما يخفف عنه هذه الصدمة هو "فاني"، الفتاة البلجيكية، التي تعرف إليها، وبقدر ما ساعدته هذه البلجيكية بقدر ما أوقعته في ورطة مع جاره التركي، حيث إن أصوات فاني ونبيل أثناء ممارسة العلاقة الحميمية عالية، والجار التركي لديه "بنات مراهقات ومحجبات" ولا يمكن أن يقبل بهذا الوضع.

في كتابه "إسطنبول: الذكريات والمدينة" ينقل لنا الروائي التركي أورهان باموق عينات بعض "نصوص النصائح" التي قدمها كتاب الأعمدة في إسطنبول مثل: "لا تسيروا في الشارع فاتحي أفواهكم".

تتولى فاني في المرة الأولى الرد على الجار، ولم يتجرأ الجار المهاجر على الرد عليها، لكن مع عودة نبيل إلى منزله وحيدًا ذات يوم، يجد جاره برفقة شخصين آخرين ينتظرانه، ويلقناه درسًا قاسيًا بضربه وتحطيم آلة التشيللو خاصته، كما حصل في بغداد!

إلى اليمين دُر

يزداد نبيل غضبًا من حضور الجالية العربية والمسلمة في بلجيكا، وسيترك تحطيم آلته الموسيقية أثرًا كبيرًا على نفسه، وهو ما يقوده لتبني أفكار اليمين المتطرف، المعادي للمهاجرين وكاره العرب والمسلمين، وحتى لا يقف نبيل متفرجًا يقرر الانخراط في نشاطات اليمين العنصري، ويشاركهم مظاهرة معادية للمهاجرين، لكن سرعان ما تنكشف هويته من قبلهم، فيتعرض للضرب ويكاد أن يفقد حياته لولا أن خلصه "السلفيون" من أيدي المتظاهرين، حيث رأى السلفيون في هذا العراقي عربيًا مسلمًا يتعرض للضرب من يمين عنصري، ولذلك قرروا إنقاذه، يا للمفارقة!

"عازف الغيوم" في إسطنبول

في كتابه "إسطنبول: الذكريات والمدينة" ينقل لنا الروائي التركي الحاصل على جائزة نوبل في الأدب، أورهان باموق، عينات من بعض "نصوص النصائح" التي قدمها كتاب الأعمدة في إسطنبول، في واحدة من القصاصات التي تتحدث عن "الطريقة المثلى للسير في مدينة" فيقول: "وعلينا أيضًا أن نجعل مشاعرنا واضحة لمن عليهم أن يتعلموا كيف يتصرفون في شوارع إسطنبول ونقول لهم: لا تسيروا في الشارع فاتحي أفواهكم".

في تركيا وإسطنبول اليوم، هنا كثرٌ من أمثال "عازف الغيوم"، إنهم سوريون كارهون لأنفسهم وللسوريين، تستشعر في أحاديثهم هذه الكراهية ضد الذات، ولولا أنه يتحدث بلكنة سورية ولغة عربية، لظننت أنك تقف أمام أحد صقور اليمين القومي التركي.

ستجد حديثًا مكرورًا عن "أخطاء" السوريين، وتحميلهم كل النكسات الاقتصادية والانقسامات الاجتماعية والسياسية في الساحة التركية. الجزء الأكثر إثارة للاشمئزاز هو فقرة تقديم النصائح أو كيف تكون "لاجئًا جيدًا"، وعند انتقال الحديث للعنصرية، تبدأ فقرة جديدة أُسميها "نصائح عنصرية لمكافحة العنصرية"، وهي تقوم على فكرة أساسيّة تتفرع منها بقية النصائح وهي ببساطة: "أغلق فمك"، أو كما نقل لنا باموق سابقًا، "لا تسيروا في الشارع وأفواهكم مفتوحة".

إسطنبول ليست بروكسل، وحياة "المتعة" محصورة في مناطق قليلة هنا، والسوريون عادة يسكنون الأحياء ذات الطابع المحافظ، أي لن تجد سوريًا أفسد "متعة" سوري آخر، إضافة إلى أن الأتراك أنفسهم لا يسلمون بأن إسطنبول غربية ليبرالية، هناك نزاع حاد ما يزال حاضرًا حول هوية إسطنبول والبلاد كلها، لكن صديقنا السوري، يجزم بأنها مدينة غربية ليبرالية لا يفسدها إلا المهاجرون، ولو خالفه في ذلك أغلب المثقفين الأتراك.

فهم السوريون متأخرًا معنى وصفهم بـ "الضيوف" هنا، وأن ذلك يعني بقاءهم عالقين في "حالة استثناء" بتعبير جورجو أغامبين، وهي تلك الحالة التي يصبح فيها الوضع المؤقت هو قانون حياتك، إنها "منطقة اللاوضوح" باختصار: لستَ مواطنًا، ولست لاجئًا، أنت مجرد غريب.

مع تصاعد العنصرية خطابًا وممارسة في البلاد، وحضور طبقة "عازفي الغيوم" التي تؤمن بطريقة عجيبة أنها من "هنا" وليست من "هناك"، قد يأتي يوم ما يجد "عازف غيوم" سوري نفسه تحت أقدام اليمين العنصري، بعد أن يكتشفوا هويته، وقتها لن ينقذه إلّا أولئك الذين كرههم واحتقرهم، وأسدى لهم النصائح.