"عارُ الأَسْر" والانتحار الجماعي

2024.11.21 | 06:20 دمشق

آخر تحديث: 21.11.2024 | 06:20 دمشق

411111
+A
حجم الخط
-A

رداً على انشقاق "أبو عاقلة محمد أحمد كيكل"، الضابط والقائد البارز في قوات الدعم السريع، وانضمامه إلى الجيش السوداني، شنت القوات هجوماً انتقامياً في ولاية الجزيرة. أفادت التقارير بوقوع حالات قتل وحشي وتعذيب واعتداءات جنسية ارتكبتها عناصر الدعم السريع بحق المدنيين، ما دفع 130 امرأة إلى الانتحار الجماعي تفادياً للاغتصاب.

حدث ذلك في أواخر شهر تشرين الأول/أكتوبر 2024. وفي كلمة أمام مجلس الأمن قبل أيام، قالت نعمات أحمدي، رئيسة مجموعة نساء دارفور: "روايات السكان المحليين الصادمة تؤكد أن وحشية الاغتصاب أجبرت للأسف أكثر من 130 امرأة، في خطوة غير مسبوقة، على الانتحار بشكل جماعي". لن أدخل هنا في تعقيدات الوضع السوداني الذي أجد فيه استهتاراً من كافة الأطراف المتقاتلة من أجل النفوذ، استهتاراً بحياة ومستقبل السودانيين الذين خرجوا في ثورتهم من أجل بلدٍ أرادوه أفضل. سأقصر حديثي هنا عما لفت انتباهي في ذاك الخبر، وهو الرقم الهائل، محلياً وإقليمياً، لعدد النساء المنتحرات هرباً من عار الاغتصاب والأسر والتعذيب. إنها حادثة غير مسبوقة فعلاً في منطقتنا.

في وصف لما شهده بنفسه على حافة الجرف في جزيرة سايبان اليابانية، صيف عام 1944، يختم رقيب المارينز الأميركي كيث أ. رينستروم شهادته قائلاً: "كان ذلك أفظع ما شهدته طيلة حياتي. الانتحار الجماعي لأسرة بكامل أفرادها في مذبحة لا طائل من ورائها. صدمةُ ما شهدتُه ذاك اليوم أصابتني بالشلل".

يعتقد برايان مارك ريج (أحد مؤرخي الحرب العالمية الثانية)، ويشاطره الرأي كثيرون، أن الانتحار المُشرّف جزء أصيل من الثقافة اليابانية.

كانت قوات البحرية الأميركية، بعد انخراط الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، قد قررت احتلال جزيرة سايبان، إحدى جزر ماريانا الشمالية في المحيط الهادئ. بعد معارك شرسة، هُزمت القوات اليابانية على الجزيرة التي يقطنها نحو ثلاثين ألفاً من المدنيين. معظم هؤلاء السكان، بناءً على تعبئة مسبقة مبالغ بها تفيد بأن الجنود الأميركيين يغتصبون ويقتلون الأسرى المدنيين، فضّلوا الانتحار بدلاً من الوقوع في أيدي القوات المهاجمة. تجمعوا شمالي الجزيرة وراحوا يلقون أنفسهم من فوق جرف صخري سيُعرف فيما بعد باسم "جرف الانتحار" (Suicide Cliff).

يروي رينستروم أنه، إثر رمي رب الأسرة اثنين من أطفاله الصغار من فوق الجرف، راح يراقبهما وهما يتدحرجان على الصخور باتجاه مياه المحيط. بعدها، وقف ابناه المراهقان باتجاه بعضهما وأديا الانحناءة اليابانية بوقار واحترام ثم قفزا في الهواء. أما الطفل الخامس، وكان بحدود السادسة من عمره، فبعد أن شاهد الموت المروّع لإخوته، حاول الإفلات والهرب، لكن والده أمسك به ودفعه خلف إخوته. كذا فعل مع زوجته التي ترددت قليلاً. بعدها، نظر باتجاه الجنود الأميركيين المشدوهين وصاح: "بانزاي... بانزاي"، تحيةً للإمبراطور الياباني، ثم قفز.

يعتقد برايان مارك ريج (أحد مؤرخي الحرب العالمية الثانية)، ويشاطره الرأي كثيرون، أن الانتحار المُشرّف جزء أصيل من الثقافة اليابانية. إثر تلك الحادثة، كانت التقارير الإخبارية في الإعلام الحكومي تمجِّد الواقعة، بل وذهبت إحدى الصحف إلى وصف الأمهات اللواتي قتلن أطفالهن ومن ثم أنفسهن بأنهن "زهرات الأنوثة". بالتأكيد، كانت تلك دعاية فظة، لكن الهدف منها كان إقناع المدنيين في اليابان بأن عليهم المقاومة حتى النهاية، متجنبين "عار الأسر"، باعتبار أن عدم الاستسلام معيار لا يسري على العسكريين وحسب، بل على كل ياباني. بعد انتهاء معركة سايبان، عُثر على تسعة آلاف مدني ياباني على قيد الحياة، بينما قضى الآلاف الآخرون إما بالقصف والمعارك أو انتحاراً.

من جانب آخر، ربما هو الأهم، أرادت القيادة اليابانية استثمار حادثة "جرف الانتحار" لإقناع الأميركيين، الذين أربكهم وأحرجهم موت هذا العدد الكبير من المدنيين، بأنهم سيواجهون هذا الموت في عموم اليابان. إذا كان هناك آلاف قد انتحروا في جزيرة سايبان، فإن سبعين مليون مدني ياباني مرشحون لذات المصير، وهو ما اعتقدوا أنه سيردع الأميركيين عن مواصلة تقدمهم لاحتلال اليابان. للأسف، تجاهل الأميركيون الرسالة اليابانية، وبدلاً من التريّث، ذهبوا إلى الحد الأقصى، وألقوا القنابل النووية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي.

إن الثقافة الإسلامية لا تحتفي بالانتحار، حتى لو كان مشرفاً، بل تعتبره من كبائر الذنوب، ومصير مرتكبه "نار جهنم" حسب الشريعة.

قد أشارك الرأي القائل بأن الانتحار جزء أصيل من الثقافة اليابانية. لكن الأمر في تلك الوقائع لا ينحصر في هذا السبب فقط. فبعد تلك الواقعة بعدة شهور، ستحدث حالات من الانتحار على الأقل لمئات النساء الألمانيات، إن لم يكن لآلاف. حدث ذلك في كل مدينة ألمانية سمع سكانها بأن الجيش السوفييتي يقترب، وكانت الأنباء تتواتر عن حالات الاغتصاب والتنكيل بالنساء من قبل جنود الجيش الأحمر. فضّلت النساء قتل أنفسهنَّ على التعرض للاغتصاب. ونعلم بالطبع أن الانتحار وتمجيد الموت ليسا من ثقافة الألمان.

بالعودة إلى السودان، فإن الثقافة الإسلامية لا تحتفي بالانتحار، حتى لو كان مشرفاً، بل تعتبره من كبائر الذنوب، ومصير مرتكبه "نار جهنم" حسب الشريعة. حاجج الفقهاء بأن الاستقامة الدينية واتباع الشرع يسبقان كل ما عداه. بمعنى أن عدم ارتكاب معصية وذنب الانتحار هو الكرامة. ومع ذلك، نجد في المرويات الشعبية أقوالاً تجعل من الانتحار نوعاً من الشرف. نقول في يومياتنا: "لو كان لديه كرامة لانتحر". يبدو أن السودانيات في ولاية الجزيرة اتبعن العرف الشرقي وقدّمنه على المعتقدات!

هل أؤيد فعلتهن؟ لا بالطبع. هل أنا ضدها؟ أيضاً لا. الأمر برمته معقد والخوض فيه شائك. لكن كل ما أعرفه أنني ضد ثقافة تمجيد الموت. مع ذلك، لستُ هنا بصدد محاكمة ما أقدمن عليه، لا نفسياً ولا دينياً، وأنا أصلاً لست أهلاً لذلك. لكني فقط انشغلت بالتساؤل: هل يمكن للأعراف المحكومة بالهوى الشرقي أن تكون أقوى، في بعض اللحظات الحرجة، من المعتقدات الإيمانية؟ وهل يمكن مجابهة وصمة العار بالإقدام على الانتحار، حتى لو كان الأمر سيغضب السماء؟

ليست لديَّ إجابة محكَمة على تلك الأسئلة. لكن كلُّ ما أعرفه، أن الحروب الوحشية من أجل السلطة والنفوذ تخرِّب كل القيم البشرية الخيّرة التي عمل عليها الإنسان وحاول إعلاءها منذ قرون، مهما اختلفت الثقافات والأديان. حدث الأمر قبل خمس وسبعين سنة في اليابان وفي ألمانيا، ويحدث اليوم في السودان، وعلى الأغلب سيحدث هذا الموت المريع مستقبلاً في أماكن أخرى، ما دام سكان الكوكب يقدّمون هذا الوجه القبيح جداً عن "الحضارة الإنسانية".