لا يقتصر تردّي الأوضاع في المشافي "الحكومية" على سوء الاهتمام بالمرضى أو نقص الأدوية والمواد الطبية، أو الأخطاء الطبية القاتلة للمرضى أيضاً؛ إذ تكشفت في الآونة الأخيرة تفاصيل حول شبكة كاملة للاتجار بالأعضاء وفق ما نقل أحد الأطباء السوريين، وتضم الشبكة أطباء وممرضين في المشافي الحكومية.
وفي جولة لـ موقع تلفزيون سوريا داخل "مستشفى دمشق" (مستشفى المجتهد)، التقطت كاميرا الموقع صوراً توضح انتشار القذارة والأوساخ، إلى جانب انعدام التعقيم بشكل كامل في قسم الإسعاف، وتلطّخ الجدران وأسرّة المرضى بالدماء الجافة في مشهد يذكرنا بسجون ومعتقلات النظام السوري.
واستطاع موقع تلفزيون سوريا الحصول على شهادات مباشرة من المرضى وأحد الأطباء المقيمين داخل المستشفى، توضّح ما يتعرض له المريض وما يمارسه بعض مقدمي الرعاية الصحية من فساد وأذية مقصودة.
طابور الانتظار الطويل والأجهزة المعطّلة
يصل دور التصوير الإشعاعي في مستشفى المجتهد إلى أكثر من 150 مراجعاً في اليوم الواحد، ما يعني انتظار بعض الأشخاص طوال النهار حتى يأتي دورهم أو تأجيلهم إلى أيام أخرى لإجراء الصورة الشعاعية.
وينتظر عشرات المرضى في ممرات المستشفى والفسحات الضيقة؛ ما يؤدي إلى ازدحام كبير يسهّل انتشار الأمراض ويسبب الإنتانات من جراء إهمال التعقيم، كما يضطر أولئك المرضى إلى التناوب فيما بينهم على الكراسي القليلة الموجودة أو الجلوس على الأرض.
تحاليل بنتائج خاطئة وأخرى غير متوفرة
لا تتوفر معظم التحاليل الطبية في المستشفيات الحكومية، مثل: تحليل الشوارد، وتحاليل الفيتامينات المختلفة (D-B12)، وتحليل (CRP)، وتحاليل مخازن الحديد، وعدد كبير من التحاليل الجرثومية الأخرى مثل HSV 1-2... وغيرها. فضلاً عن أن اختبارات "الزرع والتحسس" تظهر فيها أخطاء بصورة متكررة.
يبرّر القائمون على المستشفى عدم توفر بعض الفحوصات بعدم توفّر الشرائح والأمبولات والمواد اللازمة للتحاليل في المختبرات. فيضطر المرضى إلى إجراء التحاليل خارجياً في مختبرات خاصة -وهي تحاليل مكلفة جداً.
ووصلت كلفة تحليل فيتامين (D) إلى 128 ألف ليرة سورية، ومخازن الحديد إلى 100 ألف ليرة، بينما تصل كلفة بعض التحاليل الجرثومية إلى أكثر من 250 ألف ليرة؛ الأمر الذي يعني حاجة بعضهم إلى الاستدانة من أجل إجراء بعض الفحوصات في المراكز والمستشفيات الخاصة.
ولا يقتصر الأمر على عدم توفر التحاليل، بل إن بعض المرضى اضطروا إلى إعادة التحاليل مرتين وأكثر بسبب ضياع النتيجة أو عدم تسمية أمبولة التحليل (عبوة الاختبار) باسم المريض، إلى جانب سحب الدم من دون تعقيم أو عناية نتيجة لعدم توفر كحول أو قطن أو لاصق طبي في مختبر المستشفى!
في حديثها لموقع تلفزيون سوريا، تتحدث "حنان. ك" عما واجهته بعد أن طلب منها الأطباء تحاليل تحضيرية للعمل الجراحي، فتقول: "توجهت إلى قسم التحاليل وتبين أن 4 تحاليل من أصل 6 غير موجودة في المستشفى، ما يعني الحاجة إلى إجرائها في مختبر خاص. وقد دفعت مبلغ 23 ألف ليرة مقابل التحليلين في المستشفى، وحينما راجعتهم لاستلام النتائج، أعطاني الممرض نتيجة تحليل واحد فقط وأخبرني أن العينة الخاصة بالتحليل الثاني لا اسم عليها ولا يعلم إن كانت لي أم لا؛ أي إنّ النتيجة ضاعت!".
وأضافت حنان: "عندما تقدمت بشكوى للإدارة أخبروني بكل بساطة أن الأمر متكرر بشكل شبه يومي ومع معظم المرضى ووجهوني لإعادة التحليل".
ما علاقة كتائب البعث؟
في الوقت الذي قد يصل فيه دور التصوير الشعاعي إلى أكثر من 150 في اليوم الواحد، كما أسلفنا، فإن المرضى الذين بحاجة لصورة "مرنان" أو "طبقي محوري" ينتظرون دورهم بعد 4– 6 أشهر على الأقل في مستشفى المجتهد، وقد أوضح لنا مصدر طبي أن تعطّل المرنان في مستشفى المواساة استمر لأكثر من 5 أشهر من دون إصلاح مع تكرر أعطاله بين حين وآخر، ما أدى إلى زيادة الضغط على مرنان مستشفى المجتهد.
أما المرنان في مستشفى الأسد الجامعي فهو لأصحاب "الواسطات الثقيلة" فقط؛ إذ يجري تشغيله بأمر حصري من مدير المستشفى (نزار عباس)؛ ما يعني أنه مخصص لزبائنه فقط وبقية المرضى خارج حسابات المستشفى.
مصدر آخر من طاقم التمريض في مستشفى المجتهد أوضح من جانبه لموقع تلفزيون سوريا كيفية استغلال عناصر "كتائب البعث" المسؤولين عن الحراسة والتفتيش على باب المستشفى، أزمة الدور على الفحوصات للاسترزاق من المرضى، وذلك من خلال تعجيل دور المريض "تقريب الدور" مقابل قبض "الرُشى"؛ مستفيدين في ذلك من ارتدائهم البدلة العسكرية ومن تنفّذهم داخل المستشفى، إذ يصبح دور المريض على المرنان بعد أسبوعين أو شهر على الأكثر بدلاً من أن يكون دوره بعد 4 أشهر.
ويقول المصدر: "إحدى المنتسبات إلى كتائب البعث، المدعوة (قمر. ح)، مسؤولة عن تفتيش النساء على باب المستشفى، تستغل ارتداء البدلة العسكرية وما لديها من علاقات وثيقة مع طاقم التمريض، فتلعب دور معقّب معاملات في المستشفى، إذ تقبض المال من المرضى المحتاجين لإجراء فحوصات مستعجلة مثل: صورة المرنان أو التصوير الشعاعي أو أي خدمة مشابهة، وتقرّب لهم الدور... فالمريض الذي كان دوره 140 مثلاً، قد يصبح دوره 15 مقابل دفع 60 ألفاً أو 100 ألف ليرة سورية لقمر أو أحد زملائها من الكتائب".
واللافت، بحسب المصدر، أن بعض المرضى لا يمتنعون عن دفع مبلغ يتراوح بين 50 – 150 ألف ليرة لعناصر "كتائب البعث" أو حتى لإحدى الممرضات داخل المستشفى لكون هذا الرقم أقل بكثير من كلفة إجراء الفحوصات خارجياً وفي المراكز الخاصة؛ إذ وصلت كلفة مرنان العمود الفقري إلى مليون و200 ألف ليرة سورية، بينما كلفة الطبقي المحوري للبطن والحوض بلغت 800 ألف ليرة سورية.
ظروف علاج غير إنسانية
يعاني المراجعون من سوء معاملة مقدمي الرعاية وخاصة من طاقم التمريض في المستشفى، إذ لا يتوانى بعض الممرضين في طرد مرافقي المريض أو التعامل الجاف "بفوقية" مع المريض نفسه، إلى جانب التأخير في جرعات الأدوية المخصصة للمرضى أو التلاعب بكمية الجرعات المعطاة بل ونسيانها تماماً في بعض الاحيان؛ ما قد يعرض حياتهم للخطر.
في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، يحكي أحد أبناء المرضى المراجعين في مستشفى المجتهد (محمد. ز) قصة والده (رامز. ز) الذي توفي بسبب سوء المراقبة من الممرضين بعد إسعافه نتيجة "غيبوبة ارتفاع السكري"، إذ تم وضعه على "مضخة الأنسولين" وطلب الطبيب من الممرضات مراقبة المضخة إلى جانب إعطائه سيروم السكر حرصاً على عدم هبوط السكر في الدم بشكل حاد.
ويقول محمد: "والدي في السابعة والستين من عمره، وعندما أسعفناه بغيبوبة السكري توفي داخل المستشفى ولم ندرك في بداية الأمر ما سبب الوفاة حتى سألنا أحد الأطباء في عيادته الخاصة فأوضح لنا أن الاحتمال الوحيد للوفاة هو إهمال الممرضين بعدم مراقبته ونسيان وضع سيرومات السكر مع استمرار المضخة بالعمل؛ الأمر الذي يتسبب بهبوط حاد في سكر الدم وبالتالي الوفاة".
ويتابع محمد القصة: "بمراجعة المستشفى بعد وفاته لم نستطع فعل شيء رغم محاولاتنا المتكررة للتقدم بشكوى وتحميلهم مسؤولية خطئهم، فقد أنكروا الإهمال جملةً وتفصيلاً؛ بحجة أنه لا دلائل واضحة لدينا على ذلك –بحسب قولهم- وأخبرتنا إدارة المستشفى أن مرضى السكري معرضون لذلك بطبيعة الحال".
مستشفيات قائمة على الطلاب المقيمين
نظراً لتناوب الأطباء المقيمين (طلاب الاختصاص) وفق نظام "الورديات"، عادةً ما ينسى بعض الأطباء تسليم بيانات المرضى الكاملة للأطباء في الورديات التالية لورديتهم.
مصدر طبي في شعبة الجراحة (فضل عدم ذكر اسمه) أوضح لموقع تلفزيون سوريا أن الأطباء يتناسون ذلك في معظم الحالات بسبب العدد الهائل للمرضى وبسبب كثرة المناوبات. ويقول: "لا يوجد في مستشفى المجتهد إلا الأطباء المقيمون، وهم طلاب السنوات الأخيرة في الاختصاص؛ أي أنهم لم ينهوا اختصاصهم بعد ولا خبرة طبية كافية لديهم فهم لا يزالون طلاباً".
ويضيف المصدر: "ينسى المقيمون في معظم الحالات تسليم كامل بيانات المرضى والملاحظات حول وضعهم الصحي وتطوراته نتيجة ساعات المناوبة الطويلة والتعب بتكدس المرضى داخل المستشفى؛ لذا يكون المتضرر الأكبر هو المريض المُهمل الذي لا يملك كلفة العلاج في مستشفيات خاصة".
العمليات في قسم الإسعاف
وفي ظاهرة أقرب لما يعيشه الفلسطينيون في مستشفيات قطاع غزة؛ حيث تجرى العمليات الجراحية في أي مكان ومن دون شروط طبية صحيحة نتيجة الحرب والحصار والقتل المستمر؛ استطاع موقع تلفزيون سوريا تقصي حقيقة إجراء عمل جراحي في قسم الإسعاف وليس في الغرفة المخصصة للعمليات في مستشفى المجتهد.
أحد الأطباء المقيمين -اشترط عدم ذكر اسمه- أوضح تفاصيل قصة أحد المصابين بطلق ناري في الكتف نتيجة شجار، وكيفية تعامل الأطباء المقيمين معه "على عجل" وبإهمال مقصود وواضح.
ويقول الطبيب المقيم: "وصلنا المصاب (م. د) مساءً وقد تسلّم حالته الأطباء المقيمون في قسم الإسعاف، وهم من طلاب الجراحة العظمية، وقد طلب منهم مقيمو الجراحة العصبية عدم إجراء العمل الجراحي قبل إجراء فحوصات عصبية للتأكد من سلامة "الضفيرة العصبية" في الكتف، لكن مقيمي الجراحة العظمية باشروا بإعادة مفصل الكتف إلى مكانه وتنظيف الجرح وإغلاقه بخياطته، وقد تمّ ذلك كله من دون وجود مشرف على التخدير وفي مكان غير معقم، ولا سيما أن قسم الإسعاف في المجتهد هو الأقذر على الإطلاق".
وبتوضيح بسيط لحالة المريض، فإنه قد يكون معرضاً لفقدان الحركة في المنطقة المصابة (الشلل)، أو الحاجة إلى إعادة فتح الجرح مرة ثانية لإجراء الفحص العصبي والتأكد من سلامته. أما الأمر الأهم في قصته، فهو إجراء العمل الجراحي من قبل طلاب مقيمين (طلاب سنوات رابعة وخامسة) من دون وجود اختصاصيين وإتمام العمل الجراحي ضمن قسم الإسعاف لا في غرفة عمليات معقمة ونظيفة، إلى جانب عدم وجود طبيب تخدير مشرف في قسم الإسعاف؛ أي إن مختصي الجراحة العظمية خدّروه بأنفسهم.
وعلى لسان المصدر الطبي المذكور آنفاً، فإن الاسم المتداول لمستشفى المجتهد بين المقيمين هو "مسلسل الضياع"؛ وصفاً لحال المرضى والطاقم الطبي فيه -على حدّ سواء- وسخريةً من الواقع المرير.