يعد المرحوم جودت سعيد، الذي رحل عنا منذ أيام قليلة إلى جوار ربه، من الشخصيات القليلة التي يتوافق السوريون عليها. الرجل إسلامي "معتدل"، ويقوم مذهبه الإصلاحي على الربط بين الإسلام واللاعنف، وهذا يقربه من الذين يعتقدون أن مشكلة الثورة السورية كانت بشكل أساسي مع منظمات وميليشيات وأحزاب الإسلام السياسي. كما أن جمهور المتدينين عموما معجب بأفكاره وإن كان لا يتفق معه في "التسامح أكثر من اللازم" فالرجل محسوب عليهم في النهاية، لا سيما أن افكاره تنطلق من تأويل القرآن الكريم واستخراج رؤية إسلامية، أو ثيولوجيا إسلامية بلغة الفلاسفة وعلماء الإلهيات.
في أيام الثورة الأولى حاول جودت سعيد التأكيد على موقفه الداعي إلى اللاعنف كمبدأ أساسي، ورفض مقابلة العنف بالعنف، تماشيا مع مبدئه الذي أرساه في مواقفه السابقة للثورة، ولا سيما كتابه "مذهب ابن آدم الأول" الذي كتبه في ستينيات القرن الماضي. ولكن الأمور تسارعت باتجاه دوامة العنف تحت ضغط النظام الذي اعتقد أنه يستطيع حسم الأمور خلال أشهر قليلة، بحسب تصريحات صقوره آنذاك. لم يتراجع سعيد عن موقفه الرافض للعنف على الرغم من أنه رأي "غير دقيق" من وجهة نظر العلوم السياسية المعاصرة. ففي الأنظمة الشمولية، والمدركة لنفسها كقوة طغيان ليس لللاعنف مكان. فاللاعنفيون في الدول الشمولية يسحقون بكل بساطة وتنتهي أمورهم بسرعة، وهذا ما حصل مع كثير من السلميين عبر التاريخ، والأنثروبولوجيا حافلة بالأمثلة حول ذلك. طبعا دون أن يعني ذلك أن أنصار العسكرة على حق، فالأمور بالتأكيد أعقد من أن تختزل بهذا الرأي أو ذاك.
تعود شعبية سعيد قبل الثورة إلى أن السوريين كانوا يفضّلون رؤية صورة عن الإسلام مختلفة عن الصورة التي يريدها النظام
كانت شعبية جودت سعيد قبل الثورة أكثر منها بعد الثورة. شكلت شخصيته الدمثة وأسلوبه الجميل في النقاش، وتسامحه في طروحاته، جمهورا واسعة يتوافد إلى محاضراته التي كان يلقيها في دمشق في التسعينيات. كنا كطلاب جامعة آنذاك نتناقل أخبار محاضراته ونحاول حضورها قدر الإمكان. غير أن الهامش الذي كان سعيد يناور من خلاله لم يكن يرضي تعطش الذين يريدون أن يسمعوا نقدا "مرتفعا بعض الشيء" للنظام الأسدي. في الأحاديث الجانبية، بعد المحاضرات، كنا نلمس عنده ما يسميه فوكو "الرقابة الذاتية" التي يمارسها الناس على أنفسهم. كان الرجل يعرف الخطوط الحمر جيدا ولا يقترب منها، وهذا حقه ونحن كنا نتفهم ذلك.
تعود شعبية سعيد قبل الثورة إلى أن السوريين كانوا يفضّلون رؤية صورة عن الإسلام مختلفة عن الصورة التي يريدها النظام بأن يُري الإسلام من خلالها. وكذلك صورة مختلفة عن الصورة التي تقدمها تجارب أحزاب وتيارات الإسلام السياسية. كان قسم كبير من السوريين يريد أن يسمع كلاما عن تسامح الإسلام ولا عنفه، وأن النظام كاذب في تحشيده ضد الإسلاميين لأن هناك إسلاميين سلميين. غير أن نظرية سعيد، إذا ما دققنا فيها أبستمولوجيا (أي من ناحية الرؤية الفلسفية المنهجية) هي نظرية في الأخلاق وليست نظرية في السياسة، بعكس فلسفة اللاعنف عند غاندي التي كانت معنيّة بالسياسة وصراعاتها آنذاك. فنظريته في النهاية لا تضر النظام الأسدي في شيء، والخلاف الوحيد بينه وبين محمود عكام وكفتارو والبوطي وأحمد حسون هو اختلاف في السلوك وليس اختلاف في النظرية أو الثيولوجيا الإسلامية. الرجل كان محترما ومترفعا عن إغراءات النظام، بعكس من ذكرناهم. ولعل نظرياته "اللاسياسية" هي التي تفسر، في النهاية، تسامح النظام معه.
كان النظام يعرف جيدا من أين تؤكل الكتف، وكان وجودت سعيد يفضّل شخصية الداعية الأخلاقي على شخصية المنظّر الديني الذي عينه على السياسة.
يُذكر أن جودت سعيد ذهب في كتبه (كنت قد اطلعت على معظمها عندما كتبت بحثا عن الإسلام الدعوي في سوريا قبل عامين) إلى أن السبيل لحل مشكلات السوريين، والمسلمين عموما، هو الاعتماد على "العقل" في الاجتهاد، والرجوع إلى القرآن الكريم بغية التفكر فيه واستخراج "الاكتشافات العلمية" منه، بالإضافة إلى اعتماده مبدأ اللاعنف. الموقف الأول موقف الداعين للاجتهاد في الإسلام عن طريق العقل، ولذلك نجده يمارس منهجه في التأويل بعقل مفتوح. أما موقفه الثاني من العلم والاكتشافات العلمية فيبين نزعته الزهدية وتواضع معرفته العلمية.
لم يدقق جودت سعيد نظريته في اللاعنف. فالعنف أنواع، ويصل، في بعض الأحيان، إلى حد الإبادة. وهو وسيلة للتخويف، ولكنه أيضا وسيلة للحكم
عندما يسأله معدو البرامج التلفزيونية عن الثورة السورية، وما الذي يمكن للسوريين القيام به اليوم في ظل الأوضاع التي وصلوا إليها؟ فإنه يقدم إجابات غريبة، نسميها في الفلسفة "يوتوبيا". يقول، لا بد أولاً من إصلاح الأمم المتحدة لأنها مثل "فرعون" لا تؤمن إلا بالقوة. وفي رده على سؤال عما يمكن للسوريين أن يقوموا به تجاه أعمال العنف الرهيبة، التي تعرضوا لها؟ نجده يؤكد بأنه لا يجوز لهم حتى "الدفاع عن النفس" لأن الرسول الكريم وصحابته لم يدافعوا عن أنفسهم تجاه العنف الذي تعرضوا له في بداية الدعوة الإسلامية. كما وصف من يحملون السلاح حتى ولو دفاعاً عن أنفسهم بـ "الخوارج" لأنهم لم يتفاعلوا مع دعواته في اللاعنف.
لم يدقق جودت سعيد نظريته في اللاعنف. فالعنف أنواع، ويصل، في بعض الأحيان، إلى حد الإبادة. وهو وسيلة للتخويف، ولكنه أيضا وسيلة للحكم. وله وسائل ومنها الفتنة والتقسيم الطائفي والاستقواء بالأعداء، ولا يمكن التعامل مع جميع الأنواع والوسائل بنفس الطريقة. لم يُقتل أحد في العنف الذي تعرض له الرسول الكريم وأصحابه، كما أن قريش في حينها لم تكن تستخدم العنف كطريقة في الحكم. أما عنف النظام الأسدي فيمكن وصفه بالإبادة، ولا يمكن التعامل معه بطريقة جودت سعيد البسيطة.
لا أعرف الكثير عن شخصية جودت سعيد، ولكني أعرف الكثير عن أفكاره ورؤاه في قضايا دينية وحضارية عديدة. لم يكن بإمكان الرجل أن يكون أكثر مما كان وإلا لدخل السجن. كل ما كان بإمكانه أن يقوم به هو المحافظة على نظافة يده واستقلالية شخصيته ومحبته للسوريين، وهذا ليس بالأمر اليسير. وعلى الرغم من أن أفكاره كانت حالمة وطوباوية، إلا أنه من العدل أيضا أن نتذكر أن سوريا الأسد لم تترك للسوريين سوى الأحلام، علها تكون، بالطبع، أحلاما بعيدة عن السياسة وصراعاتها.