icon
التغطية الحية

طبابة الموظفين في دمشق: بين سياسة الإذلال وتكاليف العلاج الباهظة

2024.05.09 | 07:41 دمشق

موظفون ينتظرون إنجاز معاملاتهم في دائرة السجل العام للعاملين (وزارة التنمية الإدارية/ فيس بوك)
دمشق - حنين عمران
+A
حجم الخط
-A

أصبحت الخدمات الصحية والعلاج في مناطق سيطرة النظام رفاهية لا يقوى عليها الموظفون الحكوميون والفئات الأشدّ فقراً في المجتمع.

فإلى جانب تدني مستوى الرعاية الصحية المقدمة في المستشفيات الحكومية صار الدواء وزيارة الطبيب أعباءً يتحاشاها الموظفون الحكوميون بسبب مشكلات "عدم الصرف" الذي تختلقها لجان الطبابة في مؤسسات النظام؛ وهو ما أوصل بعض الموظفين إلى ذروة التدهور الصحي قبل أن يفكروا في التوجه إلى طبيب.

استطاع موقع تلفزيون سوريا الحصول على شهادات بعض الموظفين في دمشق حول أسلوب عمل "الطبابة" الحكومية وكيف يتحول الأمر إلى استغلال وإذلال في الوقت نفسه.

بيروقراطية الطبابة الحكومية

يٌجبر العاملون في مؤسسات النظام على إتمام معاملة طويلة في كل مرة يقررون فيها زيارة الطبيب أو شراء علبة دواء.

وتبدأ المعاملة بالحصول على "إحالة" طبية من لجنة الطبابة، وتؤخذ إلى الطبيب ليضع عليها قيمة الكشف الطبي "المعاينة" مع كتابة أسماء الأدوية الموصوفة. ويدفع الموظف من جيبه الخاص للطبيب، كما يشتري الأدوية على حسابه؛ ليتمكن بعد ذلك من إتمام إجراءات الإحالة الطبية وفاتورة الدواء التي ترفق معها تفاصيل العلاج والوصفة الطبية وقُصاصات من عبوات الأدوية "الكرتونة" أو حتى العبوات الزجاجية الفارغة للحقن (الإمبولات).

وتقدم هذه الفواتير إلى لجنة الطبابة التي تقرر أو لا تقرر "أمر الصرف"، الذي يعني الموافقة على تعويض الموظف بقيمة الدواء أو المعاينة الطبية التي دفعها مسبقاً.

ويُشترط أن يكون الطبيب المعالج الذي توجه إليه الموظف يقبل "إحالة صندوق مشترك" التي تتعامل بها بعض المؤسسات الحكومة التي تضمّن مرسوم إحداثها بند "طبابة العاملين".

بينما بدأت بعض وزارات النظام في السنوات الأخيرة بالتعامل بطريقة "التأمين الصحي" بدلاً من الصندوق المشترك؛ وذلك بالتعاقد مع شركات تأمين خاصة تمنح الموظفين مبالغ محددة للعلاج (الذي لا يتضمن الفيتامينات أو العلاج الذي يندرج تحت مسمى: العلاج التجميلي).

وبعد ارتفاع أسعار المعاينات الطبية في العيادات الخاصة والتي تتراوح بين 40 – 100 ألف ليرة سورية، أصبح بعض الأطباء يرفضون أخذ الإحالة من الموظفين، ويشترطون الدفع النقدي دون الدخول في متاهة المؤسسات الحكومية والأسعار الزهيدة التي تحددها وزارة الصحة ونقابة الأطباء لقاء المعاينة الطبية. بينما يقبل بعض الأطباء بالتعاون مع المريض بأقل الضرر من خلال كتابة "فاتورة" موقعة منه تتضمن قيمة المعاينة الطبية "الكشفية".

الصرف وفق "تسعيرة" وزارة الصحة

في لقاء لموقع تلفزيون سوريا مع (عنان) وهي موظفة في إحدى المؤسسات التابعة لوزارة النقل، باختصاص (مساعد مهندس) ولديها من سنوات الخبرة 31 سنة، أشارت إلى أن القيمة المصروفة من لجنة الطبابة لا تتجاوز الثلث –في أفضل الحالات- من قيمة المعاينة الأصلية المدفوعة للطبيب؛ وذلك بحجة أن الصرف يكون وفق نشرة وزارة الصحة.

تقول (عنان): "يأخذ الطبيب الخاص في الوقت الحالي قرابة الـ 70 ألف ليرة سورية كمعاينة طبية، بينما يصرفون لنا بعد تقديم الإحالة للطبابة ما يقارب الـ 25 ألف ليرة سورية؛ أي إننا لا نأخذ أكثر من ثلث التعويض في أفضل الحالات".

التأخير في صرف التعويضات

قد يستغرق قرار "أمر الصرف" شهوراً قد تصل إلى 4 أو 5 أشهر، وفضلاً عن إذلال الموظفين من قبل لجان الطبابة والصرف لإعطائهم موافقة على صرف التعويضات، وكون قيمة الصرف في معظم الحالات أقل من القيمة الحقيقية التي دفعها الموظف مسبقاً، فإنّ بعض الإحالات قد تتأخر حتى عقد اجتماع اللجنة، ووفق مزاج أعضائها.

تتابع (عنان) حديثها: "قدمنا الإحالات والفواتير منذ شهر تشرين الثاني 2023، وحتى الآن لم نحصل على التعويض بسبب تأخر أمر الصرف وعدم اجتماع اللجنة. لقد تغيرت أسعار الأدوية والمعاينات الطبية عدّة مرات منذ ذلك الحين.. لم نعد بانتظار التعويض أصلاً!".

الفيتامينات والمكملات لا تُصرف

في الوقت الذي يعاني فيه معظم السوريين من سوء التغذية والأمراض الناتجة عن نقص المغذيات وضعف المناعة، عمد عدد كبير من الأطباء إلى وصف الفيتامينات ضمن خطة علاج الكثير من مرضاهم، إلى جانب وصف أدوية تحتوي مكملات غذائية وأحماضاً أمينية وغير ذلك؛ ولا سيما بالنسبة لمرضى الاعتلالات العصبية والإصابات العظمية.

وما لم يكن في حسبان المرضى من موظفي المؤسسات الحكومة، أن يمنع صرف هذه الأدوية بوصفها "كمياليات"، وليست علاجاً رئيسياً. على الرغم من غلاء أسعارها في الآونة الأخيرة، ولا سيما أنها تؤخذ على جرعات وفترات طويلة لكونها ذات أثر تراكمي يستغرق وقتاً.

وفي جولة على الصيدليات، تبين أنّ سعر حقنة فيتامين دال (الأمبولة الواحدة) 18 ألف ليرة سورية، بينما تتراوح أسعار مجموعة فيتامينات ب (B  المركب) بين 25 ألف ليرة سورية للمنتج المحلي، و110 آلاف ليرة سورية للأجنبي المستورد (أو التهريب)، في حين وصل سعر علبة الفيتامين اليومي (مجموعة من الفيتامينات والمعادن) إلى ما يقارب الـ 60 ألف ليرة سورية.

 

الأمر الذي وضع الموظفين بين "حدي سكين" كما يُقال؛ إذ ليس باستطاعتهم شراء اللحوم والفواكه والعسل وغيرها من المصادر العالية الفيتامينات والبروتين... كما أنهم غير قادرين على شراء البدائل الصيدلانية لتعويض حالات النقص الحاد لديهم.

تشرح (عنان) لموقع تلفزيون سوريا مشكلتها مع لجنة الطبابة في مؤسستها والتي استمرت لأكثر من ثلاثة شهور دون جدوى، تقول: "لدي إصابة في غضروف الركبة وديسك في فقرات الظهر، فضلاً عن الآلام العصبية المرافقة، وقد وصف لي الطبيب مكمل (غلوكوز أمين) وحُقن فيتامين دال ومكملات الكلس ضمن الخطة العلاجية، لكنني صُدمت بقرار مديرة اللجنة التي رفضت صرف الأدوية آنفة الذكر متحججة بكونها مكملات وكون (الغلوكوز أمين) أجنبي المصدر "تهريب" بحسب وصفها، وفي حقيقة الأمر، لا يكفي الراتب الشهري لشراء علبتي دواء...حتى إننا صرنا نستدين لشراء الأدوية!"

ووفق شهادة عدد من زملاء (عنان) فإنّ مديرة اللجنة تعامل الحالات المرضية للموظفين بشيء من المزاجية والكثير من "المحسوبية".

اللجان تقاسم الموظفين تعويضاتهم

تأتي عرقلة صرف إحالات الموظفين من قبل لجان الطبابة في عدة مؤسسات تابعة للنظام، كطريقة لإجبارهم على التنازل عن جزء من تعويضاتهم "قيمة الإحالة" لصالح مدير اللجنة أو أحد أعضائها.

ويكون ذلك في صورة "مقايضة" للموظف، ولا سيما عندما تكون قيمة التعويضات كبيرة، مثل: تكاليف عمل جراحي، أو فحوصات المرنان المغناطيسي والطبقي المحوري والتحاليل الطبية والتنظير الهضمي.

ويضطر بعض الموظفين في هذه الحالة إلى تقديم "الرشوة" للمسؤول عن أمر الصرف عبر منحه جزءاً من قيمة التعويض من أجل تحصيل الموافقة على "أمر الصرف"؛ وفق مبدأ: الحصول على التعويض ناقصاً خيرٌ من بِلا!".

في شهادته لموقع تلفزيون سوريا، أوضح المهندس (سامر جلال- اسم مستعار) العامل في مؤسسة المواصلات الطرقية، أن كلفة علاج الديسك -وهو حالة مرضية شائعة بين معظم الموظفين- بالحقن على الجذور العصبية للفقرات المُتنكّسة، وصلت إلى 100 ألف ليرة سورية للحقنة الواحدة في العيادات الخاصة، فضلاً عن الحاجة إلى جلسات العلاج الفيزيائي والمكملات الداعمة للعظام والغضاريف.

يقول (سامر): "احتجت إلى 20 حقنة عند أحد الأطباء المعروفين في منطقة الجسر الأبيض، وهو أستاذ في كلية الطب بجامعة دمشق، أي إنّ الكلفة الكلية للحقن بلغت مليوني ليرة سورية، إلى جانب العلاج الفيزيائي الذي كلفني مليوناً و400 ألف ليرة سورية لكامل جلساته. وقد رفضت اللجنة تعويضي حتى بنصف المبلغ رغم إتمامي كامل إجراءات الإحالة وتقديم التقارير الطبية من الطبيب المختص والمعالج الفيزيائي وصورة المرنان المغناطيسي والوصفات الطبية... وتحججوا بأن أحد الأدوية الداخلة في تركيب الحقن أجنبي "تهريب"، بينما رفضوا تعويضي عن الجلسات الفيزيائية لكونها لم تتم في مستشفى حكومي رغم وجود التقارير التفصيلية".

يُشير (سامر) إلى أن مديرة اللجنة (دارين.س) تتقاضى عن الإحالات الطبية وفواتير الأدوية مبالغ مالية من الموظفين قد تصل إلى نصف مليون ليرة سورية عن كل "أمر صرف" توافق عليه.

وقد اضطر (سامر) كبقية زملائه إلى دفع رشوة للمديرة آنفة الذكر، مقابل تسيير أمر الصرف.

يتابع (سامر) حديثه: "عرقلت المدعوة (دارين) أمر الصرف المقدر بـ 3 ملايين و400 ألف ليرة سورية لأشهر كاملة، حتى نصحني أحد زملائي بتمرير مبلغ معين لها، يعني "من تحت الطاولة" عسى أن "تسهّل أموري" بحسب وصف زميلي... وفعلاً حصل ذلك فقد تمت الموافقة عليه بعد أن دفعت 300 ألف ليرة سورية، ولا بأس بخسارة جزء مقابل تحصيل الباقي!".

يذكر أن المرتب الشهري "المقطوع" لسامر، بعد الترفيعات الأخيرة التي كانت في شهر كانون الأول عام 2023، وصل إلى 496 ألف ليرة سورية، وهو "سقف الرواتب" للمهندسين أي للفئة الأولى، علماً أن لديه 20 سنة خدمة في المؤسسات الحكومة.

وبعد خصم قيمة التأمينات الاجتماعية ورسوم الصندوق المشترك ورسوم نقابة المهندسين وضرائب الدخل وقيمة "القرض" الذي استلفه مسبقاً... يصل المرتب الشهري للمهندس (سامر) إلى 316 ألف ليرة سورية فقط لا غير.

يقول (سامر): "الموظف الحكومي يتسوّل حقّه من جيب الدولة! نعمل النهار بأكمله ليقوموا بإذلالنا في لقمة عيشنا وعافية أجسادنا... الراتب أصلاً ينتهي في أول 4 أيام من الشهر".