في أعقاب مقتل رئيسها السابق إبراهيم رئيسي بحادث تحطم غامض، دخلت إيران صباح يوم الجمعة الماضي فترة الصمت الانتخابي لانتخاب رئيس جديد بعد أن وافق مجلس صيانة الدستور، أداة خامنئي الحاسمة لإيصال مرشحيه المفضلين، على ترشح ستة مرشحين رئاسيين فقط، خمسة أصوليين وإصلاحي واحد. ولاقت هذه الانتخابات التي عقدت داخل وخارج البلاد بشكل متزامن مقاطعة شعبية واسعة النطاق باتت ترسم بشكل متكرر الصورة القاتمة للشرعية المنهارة للنظام الحاكم في طهران، رغم كل محاولات الحض المتكررة من قبل خامنئي وبقية المسؤولين الأصوليين، ومعارك الرمق الأخير للطيف الإصلاحي المغامر بمستقبله السياسي، لإجراء "انتخابات حماسية".
لكن بعيداً عما تقوله انتخابات الداخل من يأس الإيرانيين من حكومتهم التي نهبت البلاد وتقودها للهاوية وافتقارها القدرة على تغيير واقعهم المرير، كان من المثير للاهتمام تخصيص طهران لأكثر من ثمانية صناديق اقتراع في بلد غارق في الحرب منذ أكثر من عقد من الزمن ولا ينظر له عموماً على أنه أحد الوجهات المفضلة للمغتربين الإيرانيين كسوريا.
انتشار غير مسبوق لصناديق الاقتراع الإيرانية في سوريا
في تصريح لوكالة أنباء إيرنا الحكومية، أشار السفير الإيراني في سوريا وضابط فيلق القدس السابق، حسين أكبري، إلى أن هناك نحو 12 ألف إيراني يعيشون في سوريا ومن المتوقع أن يكون هناك أكثر من 6 آلاف إيراني يحق لهم التصويت في هذا البلد، بحسب تعبيره. وأكد أكبري على نشر صناديق الاقتراع لتغطي جغرافية سوريا بأكملها، نظراً لكثافة تواجد الإيرانيين فيها. ومن قلب السفارة الإيرانية في دمشق، اعترف أكبري أنه تم إنشاء 8 صناديق اقتراع في مناطق متفرقة في دمشق وفي مدن اللاذقية وحلب ودير الزور وإطلاق صندوق واحد متنقل، من أجل جمع أصوات الإيرانيين المقيمين في سوريا. وفي تصريح منفصل لوكالة أنباء إيرنا أيضاً، أشار شيراني نائب سفير إيران في سوريا، إلى إنشاء إيران لصناديق متنقلة في تسعة أماكن مختلفة في سوريا، بالإضافة إلى إنشاء فروع في مرقد السيدة زينب ومقام حضرة رقية وفي دير الزور واللاذقية، وتوزيع 6 آلاف ورقة تعريفية على مختلف الأماكن.
ماهي التوجهات السياسية للناخبين الإيرانيين في سوريا؟
في مقابلة مع وكالة أنباء إيسنا، ادعى أكبري أن المواطنين الإيرانيين في سوريا شاركوا على نطاق واسع في هذه الانتخابات وكان لهم كامل الحرية في التصويت للمرشح الذي يختارونه، على الرغم من أن مقاطع الفيديو المنشورة لصناديق اقتراع سوريا لم تظهر سوى عدد قليل من الناخبين الذين يتحدثون الفارسية وبعض الآخرين بلهجة سورية في مواقع منتشرة بالعاصمة دمشق فقط. وزعم أكبري أن إيران "بلد مؤسسات" وأن هذه الانتخابات تؤكد أنه لن يؤثر شيء على "الثورة الإسلامية"، بعد هذه الفترة الانتقالية التي "استشهد" فيها السيد رئيسي، بحسب وصفه. وأكد أكبري أن مواقف إيران تجاه المقاومة ومحورها ستبقى كما هي، مهما كان رئيس إيران القادم.
لا تحمل تصريحات أكبري سوى جزء قليل من الحقيقة ولا تعبر سوى عن الصورة النمطية الخشبية التي اعتادت طهران تصديرها عن نفسها للمنطقة. يظهر السجل التاريخي لانتخابات إيران الرئاسية في صناديق سوريا، حيث يتفوق المرشحون المتشددون والداعمون لفيلق القدس دائماً، صورة معاكسة تماماً عن المقاطعة الشعبية الواسعة لكافة الفصائل الحاكمة داخل إيران، ويعود ذلك بشكل رئيسي لانتشار نسبة كبيرة من الناخبين المنتمين للجناح العسكري الخارجي للحرس الثوري وبقية مرتزقة المليشيات الأخرى التي تعمل بالوكالة هناك. على سبيل المثال، على الرغم من تفوق روحاني في الدورة الانتخابية الرئاسية لعام 2017 على منافسه إبراهيم رئيسي بفارق مرة ونصف تقريباً، إلا أن هذا لم يكن الحال في صناديق سوريا، حيث سجلت انتخابات إيران عام 2017 في سوريا مشاركة 2400 بالمجمل، 2196 صوت منهم لرئيسي، و360 منهم فقط صوت لروحاني. كما أن انتخابات الرئاسة الإيرانية اليوم التي تظهر تقدم "الإصلاحي" بزشكيان على منافسه المتشدد الآخر سعيد جليلي، وتم سحبها لدورة ثانية، تظهر بشكل معاكس تقدم ساحق للمرشحين الأكثر تشدداً وقرباً من فيلق القدس قاليباف وسعيد جليلي، بحسب ما نقلته العدسات الإيرانية في سوريا.
بطبيعة الحال، لا يمكن لغالبية الناخبين الإيرانيين المتواجدين في سوريا أن يكونوا مؤيدين لمرشحي فيلق القدس في كل مرة بالصدفة!
فيلق القدس الإيراني ينتخب رئيسه القادم من "محافظة سوريا"؟
الجدير بالذكر أن ما نشرته إيران في سوريا من صناديق وشعب إيرانية للاقتراع الرئاسي يفوق ما تم نشره في دول عديدة أخرى مثل روسيا وتركيا وأستراليا وإندونيسيا، وأرمينيا وأذربيجان حتى. ويفوق عدد صناديق سوريا الإيرانية تلك التي تم نشرها في بلدان تقبع تحت الهيمنة الإيرانية بشكل مباشر كلبنان، حيث تم نشر ثلاثة صناديق اقتراع لجمع الأصوات، أحدها وضع في السفارة الإيرانية في لبنان والآخران متنقلان، أو اليمن. وبهذا تربعت سوريا أولى قوائم الدول (137 دولة أجنبية بسفارات إيرانية) بعدد صناديق الاقتراع الإيرانية بعد العراق والولايات المتحدة.
ويثير هذا الانتشار غير المسبوق الشكوك والمخاوف بطبيعة الحال كون سوريا ليست وجهة أيديولوجية معتادة ومنتظمة للإيرانيين كالعراق، كما أنها ليست وجهة مفضلة للمغتربين والإيرانيين في المنفى كالولايات المتحدة. وفي الوقت الذي ادعت فيه الحسابات الإيرانية وجود إقبال نادر على الانتخابات الإيرانية في مراكز سوريا، لم يتم توضيح سبب الانتشار غير المسبوق لصناديق الاقتراع الثابتة والمتنقلة في مختلف المحافظات السورية، لا سيما في محافظتي حلب ودير الزور والمنطقة الشرقية، حيث لم يتم توثيق أي عمليات اقتراع لمقيمين إيرانيين في مقاطع الفيديو هناك.
من المعروف أن مواقع مختلفة في دمشق وحلب ودير الزور هي مناطق نفوذ تقليدية لإيران ومليشياتها في سوريا، ومن المحتمل أن إخفاء عمليات الاقتراع التي وصفت بالكثيفة ربما تعود لأسباب أمنية، حيث يمكن أن تكون هذه الصناديق قد وضعت في مواقع مختلفة لمقرات فيلق القدس الرئيسية المنتشرة في سوريا، وشارك في التصويت عناصر فيلق القدس بالإضافة لعناصر مليشيات فاطميون وزينبيون وغيرهم من المليشيات متعددة الجنسيات ممن حصلوا على الجنسية الإيرانية. في المحصلة، يبعث الانتشار غير المسبوق لصناديق الاقتراع الإيرانية في سوريا رسائل أبعد من الإقليم والمنطقة، ومحاولات التضخيم الإيرانية المعهودة حتى، ويسلط الضوء على ظهور شريحة لا يستهان بها من الطيف الخطير من المقاتلين المتطرفين المجهزين جيداً الذين يجاهرون بموالاتهم لفيلق القدس، ويستمدون استمراريتهم هناك من بقاء هذا التيار متحكماً بالسلطة وموارد البلاد وهيمنته على القرار الإيراني والسوري في مرحلة ما بعد الحرب.