تبحث القوى الإقليمية والدولية عن تهدئة في الشرق الأوسط، بينما تشتعل الساحات في أوروبا وآسيا. الصراع على النفط والغاز يستعر، في حين تتواصل المساعي الأميركية الأوروبية المشتركة للوصول إلى توفير البدائل عن الغاز الروسي وخصوصاً بعد تفجير خطي نورد ستريم 1 و2. تحت سقف هذه المعركة العالمية الكبرى، تصبح كل الملفات ملحقة بهذا الصراع الأكبر، من الملف النووي الإيراني، إلى صراعات أذربيجان وأرمينيا المتجددة، وحتى ما بين طاجيكستان وقرغيزستان. هذا الصراع الذي يحتوي على مسببات قومية وعرقية وإثنية ودينية، ينطوي أيضاً على صراع جيوستراتيجي مرتبط بالنفط والغاز وخطوط عبورهما.
أمام هذا الواقع، وعلى الرغم من ضعف الإدارة الأميركية برئاسة جو بايدن، إلا أن روسيا أصيبت بخسائر كبرى في حربها الأوكرانية، وهي لا بد أن تخسر استخدام سلاح الغاز الذي تزود به القارة العجوز، خصوصاً أن البدائل أصبحت شبه متوفرة، وآخرها التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل بموافقة إيران وحزب الله. هذا يعني أن الغاز الإسرائيلي سيصل إلى أوروبا، فيما موافقة إيران على ذلك ستعني توجيه ضربة للروس، ومن غير المعروف كيف ستتعاطى روسيا مع هذا الأمر وكيف ستكون الارتدادات والتداعيات خصوصاً أن حرب الغاز بالنسبة إلى موسكو هي حرب وجودية.
يأتي البحث عن توفير خطوط الغاز بعد حصول تطورات متعددة تتعلق بهذا الملف، خصوصاً أن آموس هوكشتين وهو المسؤول الأميركي عن أمن الطاقة العالمي، قد حقق تقدماً من خلال وساطته بين لبنان وإسرائيل، هو كان بالأساس ضد خط النفط الذي يمر من إسرائيل إلى قبرص لليونان، وهو يفضل الغاز المسال الذي يمنح مرونة للمصدّر والمستورد، وفي هذا السياق جاء سحب الغطاء الأميركي عن مشروع إيست ميد قبل فترة. وهو أمر رحبت به تركيا، في وقت تخسر فيه روسيا تركيا في هذه المعركة، بينما تركيا هي التي تتحول إلى منافسة روسيا في توريد الغاز إلى أوروبا، عبر أذربيجان، وأربيل ومع إسرائيل.
إنها معركة تعيد تشكيل العالم وفق خرائط طاقوية واقتصادية جديدة ستنتج عنها موازين قوى مختلفة
روسيا انسحبت من مناقصة التنقيب عن النفط والغاز على الساحل اللبناني، في حين جاءت زيارة الرئيس الإسرائيلي إلى تركيا قبل فترة وتطبيع العلاقات وتعيين سفراء، على طريق إعادة تفعيل التعاون الطاقوي بين الطرفين، وهذا سيتأثر به طرفان روسيا وإيران. إنها معركة تعيد تشكيل العالم وفق خرائط طاقوية واقتصادية جديدة ستنتج عنها موازين قوى مختلفة. صحيح أن أوروبا تلقت ضربات قاسمة وتحققت فيها إصابات قد تدفع إلى المزيد من التفكك أو الانفكاك عن الاتحاد والانتخابات الإيطالية مثال على ذلك. إلا أن روسيا أصبحت في حالة انهزامية ليس عسكرية فقط بنتيجة التراجع الذي حصل في الفترة الماضية، بل في مجالات مختلفة، من خلال افتقاد التأثير عبر الغاز، ومن خلال استعداد إيران مثلاً للذهاب باتجاه الأميركيين بعيداً عن الروس.
كل هذه التداعيات ستقود روسيا إلى مزيد من الضعف أو حتى من التفكك بفعل ابتعاد الحلفاء عنها أو مطالبة بعض الجمهوريات بالانفصال عن الإتحاد
هذا الأمر يدفع بعض الدول العربية إلى التقارب مع روسيا لسبيين أساسيين، الأول الرفض الخليجي للمسار الأميركي الجاهز للتقرب دائماً من إيران، وإعادة إحياء الاتفاق النووي، والثاني هو التأثير التي تتمكن السعودية من تحقيقه في روسيا وتحديداً في الجمهوريات الإسلامية. هذا الالتقاء يتجلى في الموقف الجامع بين روسيا والسعودية في اتفاقية أوبك بلس حول خفض إنتاج النفط الأمر الذي تتضرر منه واشنطن. كل هذه التداعيات ستقود روسيا إلى مزيد من الضعف أو حتى من التفكك بفعل ابتعاد الحلفاء عنها أو مطالبة بعض الجمهوريات بالانفصال عن الاتحاد، كما حاولت موسكو فرض هذا الأمر في أوكرانيا من خلال الاستفتاء.
على الرغم من المحاولة الإيرانية للتقرب من الأميركيين وإبداء الاستعداد لتقديم تنازل إلا أن هناك مأزقاً إيرانياً فتحته التظاهرات في المحافظات المختلفة، هذا المأزق غير بسيط بالمعنى الإستراتيجي، وهو يتعلق بمرحلة ما بعد المرشد. خصوصاً أن الخامنئي هو ولي الفقيه منذ أكثر من ثلاثين سنة، ونجح في فرض وقائع معينة، حالياً هنا ضياع داخل إيران في كيفية التعاطي بمرحلة ما بعده، بينما هناك مراجع تبحث وتطرح في إدخال تعديل لصلاحيات الولي الفقيه، ما يعني أن إيران ستكون مقبلة على تغيير حتمي ليس بالضرورة أن يطول النظام، بل في البنية والصلاحيات المناطة بالولي الفقيه، وتوزيع هذه الصلاحيات. ذلك سيتسبب على المدى البعيد بإضعاف إيران.