نقل قائد مجموعة "فاغنر" يفغيني بريغوجين، خلافه مع القادة العسكريين الروس في أوكرانيا إلى مستوى جديد، بعد أن أعلن عن تمرد مسلح للإطاحة بوزير الدفاع الروسي، في حين ردت أجهزة الأمن الروسية بفتح تحقيق جنائي مع بريغوجين.
واتهم قائد "فاغنر" الجيش الروسي بقتل عدد كبير من عناصر مجموعته في قصف استهدف مواقع خلفية لهم في أوكرانيا، وتوعد بالانتقام، بينما دعت وزارة الدفاع الروسية مقاتلي "فاغنر" إلى "عدم الانخراط في مغامرة بريغوجين الإجرامية، والاتصال بالأجهزة الأمنية فوراً"، متعهدة بضمان سلامتهم.
وعرف السوريون "فاغنر" من خلال جرائم وحشية ارتكبها مرتزقتها في سوريا، بما في ذلك القتل والاعتقال والتنكيل بالجثث ونهب الآثار، ويؤكد أحد مقاتلي المجموعة المنشقين أن مؤسسها الأول، ديمتري أوتكين، أمر بتصوير مقاطع فيديو لعناصر يهشمون رؤوس الفارين من جيش النظام ونشرها لبث الرعب في نفوس عناصر الجيش ومنعهم من الانشقاق.
فمن هي مجموعة مرتزقة "فاغنر" وكيف وصلت إلى التمرد المسلح ضد روسيا؟
يفغيني بريغوجين: لص ومحتال وطباخ بوتين
ينحدر بريغوجين، البالغ من العمر 61 عاماً، من مدينة سانت بطرسبرغ، مسقط رأس بوتين، وتخرج في مدرسة داخلية لألعاب القوى في العام 1977، وشارك في مسابقات رياضة التزلج على الثلج، قبل أن يحكم عليه في العام 1981 بالسجن لـ 12 عاماً، بتهم سرقة واحتيال.
بعد 9 سنوات أطلق سراحه ليفتتح مطعماً في سانت بطرسبرغ، ومن خلاله تقرب من الرئيس الروسي ومسؤولين آخرين، واستخدم ذلك لإنشاء شركة تموين وإطعام، وفاز بعقود حكومية مربحة أكسبته لقب "طباخ بوتين".
توسعت أعمال بريغوجين لاحقاً لتشمل مجالات أخرى، مثل وسائل الإعلام، و"مصانع الترول"، وهو مصطلح يطلق على مجموعات التلاعب بالرأي العام عبر بث الشائعات والأخبار الخاطئة، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة توجه له الاتهام بالتدخل في الانتخابات الرئاسية في العام 2016.
أعاد يفغيني بريغوجين تأسيس مجموعة مرتزقة "فاغنر" في العام 2014، وأقر بقيادتها وتمويلها، ووصفتها روسيا بأنها "شركة عسكرية خاصة"، بينما يعتبرها مسؤولون غربيون "قوة مرتزقة تعمل بالوكالة عن القوات الروسية".
ونفت روسيا عدة مرات تورط "فاغنر" في عملياتها العسكرية الرسمية، لكن تقارير ودراسات غربية عدة أكدت أن المجموعة "غالباً ما تكون مرتبطة بشكل مباشر بالكرملين، ولعبت دوراً بارزاً في عمليات روسيا بأوكرانيا بين عامي 2014 و2015.
حصلت "فاغنر" على اسمها من لقب قائدها الأول، ديمتري أوتكين، وهو مقدم متقاعد من القوات الخاصة للجيش الروسي، وسرعان ما اكتسبت سمعتها في الوحشية والقسوة.
يد "قذرة" لبوتين من إفريقيا إلى الشرق الأوسط
شوهد مقاتلو "فاغنر" لأول مرة في شرقي أوكرانيا في نيسان 2014، بعد فترة وجيزة من ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، حيث استخدمها الكرملين كغطاء لإرسال الأسلحة والمعدات والقوات إلى إقليم دونباس، وللسماح لإشراك متعاقدين من القطاع الخاص (المرتزقة) للمشاركة في القتال في أوكرانيا.
كما شارك مقاتلو المجموعة في الصراع الليبي منذ أن شن اللواء المتقاعد خليفة حفتر هجوماً للسيطرة على طرابلس في نيسان 2019، حيث استخدمت روسيا مقاتلي "فاغنر" للقتال إلى جانب حفتر، ضد حكومة "الوفاق" المعترف بها دولياً.
وتقدر وزارة الدفاع الأميركي عدد مقاتلي المجموعة في ليبيا بنحو ألفي مقاتل، يسيطرون على عدد من المواقع والقواعد العسكرية شرقي ليبيا، وفي محافظتي سرت شرقي طرابلس والجفرة جنوبي شرقها، ويتمركزون بقاعدة القرضابية الجوية بسرت ومينائها البحري، بالإضافة إلى قاعدتي الجفرة الجوية وبراك الشاطئ وسط ليبيا.
كما أرسل الكرملين مرتزقة "فاغنر" إلى جمهورية إفريقيا الوسطى، حيث تتهم المجموعة بإعدام مدنيين ومهاجمة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، واستهداف المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة.
وقال دبلوماسيون غربيون كبار إن "فاغنر" سيطرت على مناجم الذهب في إفريقيا الوسطى، واتهمت "هيومن رايتس ووتش" عناصر المجموعة بارتكاب "فظائع"، بما في ذلك إعدام رجال غير مسلحين.
كما نفذت المجموعة ومرتزقتها أعمالاً لصالح روسيا والقوات الروسية في مناطق عدة من العالم، بما في ذلك المشاركة في نزاعات وحروب أهلية ودعم أطراف ضد أطراف أخرى، وبشكل خاص في ليبيا والسودان ومالي.
وصنفت الولايات المتحدة في كانون الثاني الماضي "فاغنر" كمنظمة إجرامية عابرة للحدود، وقالت وزارة الخزانة الأميركية حينذاك إنها "تزعزع استقرار الدول، وترتكب انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، وتمارس عمليات ابتزاز للموارد الطبيعية للدول التي توجد فيها".
واتهمت الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية ودول غربية مجموعة "فاغنر" بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في سوريا وجميع أرجاء إفريقيا، بما في ذلك إفريقيا الوسطى وليبيا ومالي، في حين اتهمها الاتحاد الأوروبي في العام 2021، بارتكاب "انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك التعذيب والإعدام، وتنفيذ أنشطة مزعزعة للاستقرار".
في طليعة العدوان على أوكرانيا
كان مقاتلو "فاغنر" وقائدهم في طليعة الغزو الروسي لأوكرانيا، ولعبت المجموعة دوراً متزايداً وواضحا في المعارك مع الجيش الأوكراني، حيث كانت القوات الروسية النظامية تعاني من خسائر فادحة، وتفقد الأراضي التي تحتلها في نكسات متلاحقة.
خلال الشهور الأولى لغزو أوكرانيا، زار بريغوجين السجون الروسية لتجنيد المقاتلين، وقدم لهم وعوداً بالعفو إذا نجوا من جولة قتال في خطوط المواجهة بأوكرانيا مدتها 6 أشهر ضمن صفوف المجموعة، وأعلن عدة مرات أنه استطاع تجنيد 50 ألف مدان، قُتل منهم نحو 10 آلاف في بخموت، فضلاً عن عدد مشابه من العناصر المتعاقدين.
ووفق مجلس الأمن القومي الأميركي، تضم "فاغنر" نحو 50 فردا داخل أوكرانيا، بينهم 10 آلاف متعاقد و40 ألف مدان أطلق سراحهم من السجون الروسية، وتقدر الولايات المتحدة أن بريغوجين ينفق شهرياً نحو 100 مليون دولار على عمليات القتال
كيف بدأ النزاع؟
طوال فترة الحرب في أوكرانيا، كان بريغوجين يشتبك مع القادة العسكريين الروس، وانتقد بشكل صريح كفاءتهم، واتهمهم عدة مرات بإهمال احتياجات قواته من الأسلحة الذخيرة، ونشر مقاطع فيديو تناقض الروايات الرسمية الروسية عن المعارك.
أواخر العام 2022، تصاعدت شكاوى بريغوجين من أن الجيش الروسي لا يزود "فاغنر" بالذخيرة الكافية، وهدد مراراً بسحب مقاتليه من المنطقة، وفي نفس الفترة كُشف عن تزويد كوريا الشمالية المجموعة بالأسلحة والذخائر، بما في ذلك الصواريخ.
بعد أيام قليلة، سيطرت روسيا على بلدة سوليدار في منطقة دونيتسك بعد معارك طويلة وصعبة خاضتها "فاغنر"، في حين نسبت وزارة الدفاع الروسية كامل الفضل إلى الجيش الروسي، ما جعل بريغوجين يتهم وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، بسرقة "النصر والمجد".
بعد أسابيع لاحقة، أكدت تقارير صحفية أن مسؤولي وزارة الدفاع الروسية يسعون إلى إبعاد "فاغنر" وقائدها من الدائرة المقربة لبوتين، ما أدى إلى اتهام بريغوجين لوزير الدفاع الروسي ورئيس هيئة الأركان بـ "الخيانة وحجب إمدادات الذخيرة عن فاغنر".
تصاعد الخلاف لدى بريغوجين، المعروف عنه بأنه شخصية صدامية، ونشر مقاطع فيديو تظهر "كفاءة مقاتليه" في المعارك مع الجيش الأوكراني والسيطرة على المناطق، وتشكك في جاهزية الجيش الروسي، وبلغ الخلاف ذروته في مقطع فيديو ظهر فيه بريغوجين إلى جانب جثث لمقاتلي المجموعة قُتلوا برصاص روسي، مطالباً بـ "العدالة لتضحياتهم".
وقال بريغوجين إن القيادة العسكرية الروسية مسؤولة عن مقتل 2000 عنصر من مقاتلي المجموعة، محذراً من أن "أولئك الذين دمروا شبابنا، وحطموا حياة عشرات الآلاف من الجنود، سيعاقبون".
وفي مقابل ذلك، رد جهاز الأمن الروسي بفتح قضية جنائية ضد بريغوجين، معتبراً تصريحاته "دعوة إلى تمرد مسلح، وطعنة في ظهر الجنود الروس"، ودعا مقاتلي المجموعة إلى رفض الأوامر واعتقال قائدهم.
ماذا الآن؟
يشكل تمرد بريغوجين تحديات كبيرة للرئيس الروسي، ولجهود الحرب الروسية في أوكرانيا، حيث تلعب مجموعة "فاغنر" دوراً بارزاً وحاسماً في عرض النفوذ الروسي، فضلاً عن تداعيات على الدعم العام لجهود الكرملين الحربية، والتداعيات المحتملة على نظام بوتين بشكل عام.
ووفق تقرير نشرته صحيفة "فورين أفيرز" الأميركية، فإن بريغوجين يدرك تماماً أنه لا يشكل أي تهديد سياسي لبوتين، فهو لا يتمتع بأي دعم داخل النخبة الحاكمة الروسية باستثناء قربه من بوتين، الذي كان حريصاً على إبقاء الأمر على هذا النحو.
وذكرت الصحيفة أن "روسيا اليوم ليست روسيا ستالين، وعدد من قطاعات المجتمع الروسي يراقب مغامرات بريغوجين برعب واشمئزاز"، مشيرة إلى أنه إذا انتفت الحاجة إلى "فاغنر" لدى بوتين، فلن يتوانى الأخير عن التخلص من المجموعة وقائدها والتخلص من "صداع" هو آخر ما يحتاجه بوتين في هذه الفترة.