كنت كلما تقدمت بالقراءة أكثر، أجدني بيني وبين نفسي أردد "شكراً غازي كنعان"! أجل، فلولا انتباهته العارضة، والتي لا تتناسب مع تاريخه الإجرامي في سوريا ولبنان، لما كان برّو بيننا اليوم، ولما قرأنا هذه الشهادة المأثرة.
بدا الأمر من رجل المخابرات القوي منذ تلك الأيام، وكأنه مجرد تصحيح إداري، يوجهه للقاضي (ضابط المخابرات) سليمان الخطيب، المشهور بلقب جزار تدمر، رغم أنه ظهر هنا كالإمّعة بالمقارنة مع كنعان. واضح مما أورده محمد برو في كتابه "ناجٍ من المقصلة" أن كنعان تعامل مع القاضي بازدراء، حين منحه غرفة صغيرة بأثاث رث. من معرفتي الشخصية بالمكان أقدّر أنها ربما كانت واحدة من غرف التحقيق في فرع الأمن العسكري بحمص.
"ابن القحـ.. هذا لا يُعدم. إنه لم يبلغ الثامنة عشر بعد" قال كنعان للقاضي وهو يسحب الطفل برّو من أذنه، بعد أن شاهد القوائم فوجده من بين المحكومين بالإعدام. ليجيب الآخر المستخف بحيوات البشر "حدَث.. سوَّدَ الله وجهك، خفّفنا لك الحكم إلى عشر سنوات. انقلعْ"! بهذه المصادفة العارضة، نجا برّو، دون جميع أصدقائه في تلك الجلسة. الأصدقاء سيعلَّقون بعد فترة على منصات الشنق. لينجو برّو ويخرج بعد ثلاثة عشر عاماً، ويروي لنا اليوم ما روى.
على الأغلب أن برو لم يشأ عامداً، التركيز في كتابه على استخفاف هؤلاء القتلة إضافة للسجانين، بحياة البشر. كل ما فعلهُ، أنه قدّم وصفاً دقيقاً لما كان يجري دون أية مبالغات أدبية أو تخيّلية. وبطبيعة الحال ما جرى، خلال تلك السنوات، كان يفوق أي تصوّر للاستخفاف بالأرواح يمكن تخيّله. ما جرى، كان حرفياً، مجزرة مستمرة ودائمة عاشها نزلاء سجن تدمر لسنوات.
أعرف في التاريخ القديم والحديث، عن كُتّاب وقّعوا على قرار إعدامهم، وهم يوقعون نهاية كتبهم أو مقالاتهم ويدفعونها للنشر، رغم خطورة ما فيها. لكني لم أعرف إلا القليل، عن كتّابٍ حكموا على قرّائهم بكل ذاك الأسى، وهم يوقعون لهم إهداءً ودوداً على الصفحة الأولى من الكتاب. هذا ما فعله بي محمد برّو، وأنا ألهث لأتابع حكايا الذين مضوا وحكاية من نجا. المفارقة أنني وأنا أكتب يخطر لي أن أنصح القرّاء بتجنبه. لديَّ ما يشبه اليقين أن كلّ من سيقرأ الكتاب سيصيبه ما أصابني، بل وسيختنق في الكثير من الصفحات.
في الأمسية التي حضرتُها في إسطنبول، لتوقيع كتابه، لا أدري إن كان محمد قد حاول كعادته أن يجيب على الأسئلة بمرحه المعتاد، الذي يستغربه الكثيرون، نظراً لكل ما مرَّ به. إن كان حاول ذلك فقد فشل هذه المرّة. كلُّ رَمشةٍ من عينيه كانت تشي أنه مسكون بحزن مترسّب في روحه. حزنٌ تكلَّس، وتحول إلى ما يشبه مادة حجرية عصيّة على التكسير، ما دعا كل من كان يصغي إليه للابتهال المخنوق بأن يذهب مجرمو روايته (شهادته) هم وأشباههم إلى الجحيم.
حين تكون تحت التعذيب يخبرك الجلادون بوضوح تام، وبمختلف الوسائل (قسوة التعذيب، شتائمهم، تباهيهم باسترخاص روحك) أنهم ليسوا من صنف البشر الذين عرفتهم في كامل تجربة حياتك
على أهميتها البالغة، إلا أنني هنا لا أكتب عن الرواية (الوثيقة) التي صدرت عام 2021. أي بعد نحو أربعة عقود من اختمارها في ذاكرة صاحبها. سأكتفي بأن أذهب لشذرات من انطباعاتي عن ذاك الغول فاغر الفم الذي قدمه الكتاب على أنه سجن تدمر. جحيمٌ كامل الأركان والمواصفات، يديره مجمّع متناسق من الشياطين القتلة، وإن حدث، بسبب خلل إداري ما، أن تسرّب إليه أحد الملائكة، فمصيره الموت كباقي السجناء. ليس مقبولاً أن يوجد أي ملمح إنساني للبشر الطبيعيين على أحد من عناصر الإدارة أو السجانين.
يروي برّو كيف قُتل أحمد السباعي، رقيب الشرطة العسكرية، نازفاً في باحة السجن تحت سياط وهراوات وأقدام زملائه الذين فقؤوا عينه وكسروا أضلاعه، بأوامر وحضور فيصل غانم مدير السجن. لم يساعد السباعي أحد السجناء على الهرب، ولا هو تعاون مع أحدهم لتسريب خبر عن جحيم السجن إلى الخارج. تمَّ قتله بوحشية، حين وصلت معلومة للإدارة تفيد بأنه كان يهمس للسجناء عند إغلاقه الباب عليهم "بيفرجها الله يا شباب".
لطالما ردّدت أمام الأصدقاء واحدة من قناعاتي الطريفة "هناك شفافية مخابراتية عالية السقف من طرف واحد، معقودة بين السجان والسجين". حين تكون تحت التعذيب يخبرك الجلادون بوضوح تام، وبمختلف الوسائل (قسوة التعذيب، شتائمهم، تباهيهم باسترخاص روحك) أنهم ليسوا من صنف البشر الذين عرفتهم في كامل تجربة حياتك، وبأنهم لا يشبهون حتى أنذل وأحطّ وأخسّ المجرمين في تاريخ البشرية، ومع ذلك وجدت في شهادة برّو ما هالني، إنه الحد الأقصى والمتطرف لنموذج الجلاد الوحش.
بعد أن بدأت أسمع ما جرى في سجن تدمر، أيقنت أن التعذيب الذي نالني لأيام، وهو تعذيب إجرامي ووحشي بكل المقاييس، كان مزحة عابرة ومؤقتة، أمام ما عاشه سجناء تدمر يومياً على مدار سنوات.
مهما اختلفت التجارب، إلا أن هناك شيئا من التشابه يجمع بين تضاريس جروح السجناء على الأغلب، لتتشكل بينهم (كودات) للتفاهم في الإرسال والتلقّي المُتبادَل. إلا أنني عندما سمعت حكايات تدمر للمرة الأولى، تلقّيتها وكأنني لم أعرف السجن من قبل. فأنا، بمحض ضربة حظ، لم أعش تجربة تدمر، حيث افتُتح سجن صيدنايا في فترة الاعتقال والتحقيق، وكنت في فرع فلسطين، فانتقلت مع آخرين إلى السجن الجديد مباشرة مطلع عام 1988. حين استمعت هناك إلى حكايا القتل التي طالت الآلاف، وعرفت الكثير عما تعرض له هؤلاء القتلى والناجون، وجدتُ نفسي غرّاً في تجربة السجن.
عندما انتقلنا إلى صيدنايا بعد تجربة جولات تحقيق وتعذيب مُهلكة في فروع الأمن، كنت اعتقدتُ، شخصياً، أنني زرت الجحيم وجاورت الموت تحت التعذيب، ثم نجوت. لكن بعد أن بدأت أسمع ما جرى في سجن تدمر، أيقنت أن التعذيب الذي نالني لأيام، وهو تعذيب إجرامي ووحشي بكل المقاييس، كان مزحة عابرة ومؤقتة، أمام ما عاشه سجناء تدمر يومياً على مدار سنوات.
مراراً وتكراراً كنت قد استمعت إلى تلك الحكايات من أصحابها، بعد أن تم نقل الناجين من الموت إلى سجن صيدنايا، وكنت رأيت القادمين الجدد بوجوههم الصفراء الشمعية، وعظام وجناتهم الناتئة، وثيابهم المرقّعة، حتى لا تكاد تعرف لون القطعة الأصل. مع كل ذاك المِران من المعايشة والإصغاء إلى الحديث الشفوي المباشر، بدت لي قراءة وثيقة "ناجٍ من المقصلة"، وهي على هذا المستوى من الدقة والتفصيل أمراً مختلفاً. أخذني محمد برّو من عالمي الحالي، وأعاد رميي بقوة إلى جحيمٍ بدا بلا قعر. مشكلتي معهُ أنني لا أستطيع لومه على ما فعله بي، فالرجل قد نبهنا منذ الصفحة الأولى، عندما كتب تحذيراً إرشاديّاً واضحاً "ستعيا يا صديقي وأنت تتبعني". وقد فعلها حقاً. لم أكن حكيماً بما يكفي للانصياع إلى تحذيره.
بالعودة إلى غازي كنعان، وباعتبار أن الرجل كان رئيساً لفرع الأمن العسكري في مدينة حمص، فقد عرفتُ وسمعت الكثير عن الجرائم والفظاعات التي مارسها في المدينة نهاية سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن المنصرم. من اعتقال الأبرياء والأطفال والنساء وأخذ الرهائن وتعذيبهم بيديه، ليُدلوا باعترافاتٍ عن أمور لم يفعلوها، إلى قتلهم تحت التعذيب أو إرسالهم إلى تدمر ليلقوا مصيرهم هناك. كما عرفت الكثير عن تاريخه الإجرامي في لبنان فترة الاحتلال السوري.
ومع ذلك ضبطت نفسي أكثر من مرة، يا للخجل، متلبّساً بشُكر هذا الوغد، فلولا انتباهته تلك، لكان محمد برّو غادرنا مع أصدقائه، ومع آلاف آخرين، ابتلعتهم رمال صحراء تدمر. فهل تغفرون لي فعلتي؟!