سوريّو الداخل بين "وينستون" والدكتور "مانيت"

2023.02.10 | 05:59 دمشق

سوريّو الداخل بين "وينستون" والدكتور "مانيت"
+A
حجم الخط
-A

إنها قمة المأساة لا شك، أن يصل سوريّو الداخل إلى مرحلة التعاطي مع مخرجات حرب مدمرة بهذه "الخفة" المدهشة، يهربون إلى مقصلة الطاعة من سخط الطاغية وظلمه. هم القانعون بأنهم لن يكونوا سوريين أبداً لولا "مكرمة" الأسد بعدم حرمانهم من الجنسية السورية. ولا يخفى على أحد أنّ مسرحَ الواقع السياسي في سوريا نتاجُ ثقافةٍ اجتماعية تمخضت عن نظام القهر، لتُكرَّس من خلالها مفردات الطغيان والاضطهاد، حتّى بلغ الشعور بالهوان، اليوم، إلى درجة الاحتقان، لكن دون انفجار، لفرط التوجس من الآتي الأعظم، فالتسلّط الذي يعزّزه الرعب وضعَ السوريين في دائرة استلابٍ شاملة، أدّى إلى إنتاج الشخصية السلبية التي تعتريها روح الهزيمة.

صادمة هي السيولة الفائقة للمرحلة الانتقالية بعد الهدوء النسبي للحرب السورية، التي أدت إلى شلّ البلاد التي تغصّ بحشرجات العدم السوري

ومصطلح "المواطن الصالح" نموذج لا شكل ثابت له، يتبنّاه النظام الحاكم وينتجه، لتبقى الطاعة صكّ براءة من نوع ما، لا أمام المحكمة أو الجلاد، بل أمام السوري نفسه خاصة. هكذا تتمثل النتيجة النهائية (للطاعة خوفاً) بالانصياع العلني وخلق الإيقاع "الاعتياديّ" عبر لعب أدوار والتلفظ بكلمات تضمن تفادي الخطر أو الاتهام به، وهو نوع من التنكّر الذي يتطابق مع الجلد من أجل النجاة، وفي الحقيقة هناك أداء لا نعلم مدى جديته يُحرك الحياة السورية اليومية.

بالتالي صادمة هي السيولة الفائقة للمرحلة الانتقالية بعد الهدوء النسبي للحرب السورية، التي أدت إلى شلّ البلاد التي تغصّ بحشرجات العدم السوري. غير أنّ السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه: هل يملك الشعب السوري الوعي الكافي والرؤية الواضحة للقاع الذي يرقد فيه بسكينة مستفزة، وما الذي يدفع به للإذعان إلى قوة شخص واحد وهو بالأساس من منحه تلك القوة؟. طاعة عمياء دفعت بالأسد للاستخفاف بشعبه، ومن ثم إقصائه من المشهد السلطوي والممارسة السياسية، فالزمن السوري الجميل قد ولّى حقاً، وحقيقة أنّه قد وصل عددُ من تولّى الحكم من عام 1922 وصولاً إلى عام 1958 إلى اثني عشر رئيساً، تُدمي قلوب السوريين أينما كانوا، وتجعل حلم الحريّة ضرباً من ضروب الوهم والهذيان.

في السياق يقول تشيسلاف ميلوش في روايته "الاستيلاء على السلطة": "إنّ الإنسان عندما يُسلّم إلى قوة قاهرة فإنه يصل إلى درجة الإعجاب بما يكره. وهو لا يريد أن يعترف بهذا أمام نفسه، فليس هناك طريقة أخرى للخلاص سوى أن تكون أقرب إلى مركز هذه القوة". وهو نفس ما فعله وينستون بطل رواية "1984" حين أحب الأخ الأكبر، أما الروائية النمساوية ماري إبنر إيشنباخ فتقول: "إنّ أعدى أعداء الحرية، إلى جانب الطغاة ورجال السلطة، هم العبيد السعداء".

وفي الواقع إنه لمن الفداحة بمكان أنّ كلمة "حياة كريمة" على ألسنة السوريين غدت أشبه بأساطير الأولين، يتغنَّى بها الكثير وتشتد حمأتهم حين يتحدثون عنها في بلد أعظم إنجازاته استبدال ديكتاتورية مُسنّة بديكتاتورية شابة، تقنص اللقمة من أفواه شعبٍ مسحوق أساساً، ثم تشتري بها مايكروفوناً ليلقي الطاغية خطاباً عن تحسين الاقتصاد ومخططات باهرة للقضاء على الجوع. في المقابل قارن ذلك بما حدث مع ونستون تشرشل الذي قاد بريطانيا إلى النصر في الحرب العالمية الثانية، ثم خسر الانتخابات في عام 1945، لأنّ البريطانيين قرروا انتخاب رئيس وزراء جديد بأفكار جديدة لمرحلة ما بعد الحرب، أيضاً الجنرال ديغول الذي قاد فرنسا لتحريرها من النازية لكن ذلك لم يمنع الفرنسيين من الثورة ضده في عام 1968.

بالتوازي، وفي رواية "قصة مدينتين" لتشارلز ديكنز، الرواية الأشهر التي أرّخت قصة الثورة الفرنسية وأحداثها بين مدينتي لندن وباريس. تظهر شخصية الدكتور "مانيت"، سجين الباستيل لثلاثة عقود، والذي امتهن مهنة الحذّاء وعاش خلاصة القهر الفرنسي، فبقي وكلما ضاقت به الدنيا، يدخل غرفته بخياره الحرّ ويسجن نفسه منفرداً، معاوداً ممارسة عادته في صناعة الأحذية، بينما صوت المطرقة على السندان كان سلوته عن قهره المضاعف، مردداً:

(علّها حذاء لطفلة عارية، علّها لبسة يوم قادم).

وفي داخل السجن السوري الكبير، بقي السوريون المُخدَّرون الذي يؤججون محرقة السلطة بأن يلقوا فيها أغصان إيمانهم الأعمى بأبدية "القائد"، يصرّون على اجترار المسبقات والوصفات الجاهزة للقهر السوري ولا حراك يُذكر. فمن يتجرأ على لعب دور سجين الباستيل ليقدم، مثلاً، ثياباً لتلك الطفلة التي كانت تبكي وتشكو تجمّد أطرافها في مخيم يقع شمال غربي سوريا، والتي سبق أن ماتت أختها من جراء البرد، أو يهب بيتاً لتلك الطفلة التي تمنّت في العيد خيمة لا يخترقها المطر!، مثلما يتجرأ تماماً على إخراس أمثال المدعو محمد خير العكام، عضو مجلس الشعب التابع للنظام، الذي صرّح أنه في حال حصل المواطن على كهرباء /24/ ساعة متواصلة، لن يتمكّن من دفع الفاتورة التي قد تصل إلى مئتي ألف ليرة سورية، وهو ما يعادل ضعف راتبه!. أيضاً ذلك المدعو هلال الهلال، المساعد الأمين للفرع الإقليمي السوري لحزب البعث العربي، الذي صرّح، بدوره، أنّ الشعب السوري قادر على مواجهة التحديات الجديدة مهما كانت "التضحيات"!؟.

لا شيء سيتغيّر على المدى المنظور، ولعنةُ الخوف شيءٌ متجذّر وأصيل منذ بداية حكم الأسد، الذي غدا الكيان الموازي لمفهوم الدولة، فالشعب السوري، بعرف الطاغية، لم يُخلق إلاّ ليجرّ عربة الحاكم. ولست هنا بوارد تحليل سياسي للأحداث الكارثية الحالية، بينما أخطر ما يمرّ به سوريّو الداخل وقوعهم في حالة العجز التام، وشعورهم بأنّ لا حلّ ينتظرهم، وبأنّ مستقبلهم محدد وواضح، وعليهم أن يستسلموا لواقعهم المحتوم، فتعود الرقاب متدلية لسكاكين الطاغية، والظَّهر مشرعة لسياط الجلاد، من هنا تخلق أعذار القعود، وتبريرات الهروب ومفاتيح التسليم، وهنا يقهقه فرعون (أنا ربكم الأعلى) ويسجد العبيد.

عملياً كلّ كلمة حقّ تُقال في هذا المقام تعترينا بسببها مشاعر متناقضة يصعب لجمها أو فهمها، بينما تبقى الحقيقة الثابتة هنا أنّ الأسد ثبّت عرشه فقط لأنه يوجد عبيد مطيعون

وليس أدل على ذلك سوى مثال بسيط، أنه وعندما إطلاق حملة "فزعة أهل الخير" في درعا، أنْ سعت حكومة الأسد إلى نسب الفضل إليها في تلك الحملة، مطالبة بالحصول على نسبة من التبرعات التي خصصت لإعادة تأهيل البنى التحتية في المحافظة. وفي الحقيقة يأتي قمع (الفزعات) كسياسة صريحة لمنع تبلور حركة شعبية موحدة إزاء (فزاعات) النظام المافياوية. عملياً كلّ كلمة حقّ تُقال في هذا المقام تعترينا بسببها مشاعر متناقضة يصعب لجمها أو فهمها، بينما تبقى الحقيقة الثابتة هنا أنّ الأسد ثبّت عرشه فقط لأنه يوجد عبيد مطيعون.

وعليه أليس الصمت نوعاً من التواطؤ مع سياسة العصا، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما قاله علي عزت بيغوفيتش: (لا توجد خسارة لا يكون الشعب الخاسر مسؤولاً عنها!، ولا يوجد في مزبلة التاريخ أبرياء، لأنك عندما تكون ضعيفاً فهذه خطيئة من وجهة نظر التاريخ، وأن تكون ضعيفاً في التاريخ هو عمل لا أخلاقي). فالديكتاتور، في المحصلة، ليس شبحاً ولا أسطورة وخرافة، ولا وهماً وسراباً، ولا هو صناعة مخيلة جماعية شعبية، إنما هو كيان بشري قائم، نعرفه بشكل حقيقي، وليس من الضرورة أن يعرفنا، ونعلم، أيضاً، أنّ الطاغية لا يعود شيئاً مذكوراً إلّا كغصنٍ بات من دون ماء يُغذّي جذعه فجفّ ومات.