icon
التغطية الحية

سوريا وطني الثاني | ذاكرة

2024.02.03 | 22:50 دمشق

آخر تحديث: 26.02.2024 | 14:54 دمشق

تا
+A
حجم الخط
-A

كأنَّ صدمة العودة إلى حضن الوطن صيف 1995 بعد ست سنوات قضيتها في الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن وحدها تكفيني ألمًا. ما لم أكن أتوقعه أن تصبح لهجتي أيضًا – أو لَكْنَتي تحديداً – من أبرز مُنغِّصات العودة. فخلال سنوات "الغربة" عن "الوطن" لم أكن في حِرْزٍ من البيروقراطية والروتين القاتل فحسب، إنما في غفلةٍ أيضًا عن لَكْنَتي التي اكتشفتُ الآن أنها باتت تسبب لي جُرحًا بين الحين والآخر. لكن لا أريد أن أتخذ من هذه المسألة حائطَ مَبْكىً أسكب عنده العَبَرات والنُّواح، لأنه بعد أن تعوَّد على "الصَّدْعات" قلبي، صارت الأحاديثُ التي تثيرها لَكْنَتي مناسباتٍ أتندَّر فيها على مُحَدِّثِّيَّ.

دار أول حوار جارح بعد عودتي من أمريكا مع سائق تكسي ركبت معه من أمام جامعة تشرين في اللاذقية. لم أكد أنطق بجملة حتى قال لي بثقةِ مَنْ لا تُخطئ فِراستُه: "الأخ مانك سوري!" قلت له بألم وغضب موزون: "بلى، والله، إني سوري، لكن الحق على سايكس بيكو!" ثم أردفتُ بجرأةِ مَنْ لا يخشى العواقب، رغم المحاذير: "بصراحة يا أخي، ليس في انتمائي إلى سوريا ما يدعو إلى الافتخار، لكني أقتسم وإياك هوية وطنية واحدة، شئتَ أم أبيت. وسوريا ليست فقط دمشق وحلب وحمص واللاذقية." صُدِم الرجل من هذا الرد الذي لا ينمُّ، في ظاهره، على اعتزاز بالانتماء إلى "قلب العروبة النابض،" لكن أظن أن إحساسه بالذنب جعله يعتذر مني بدلًا من أن يأخذني إلى أقرب فرع للمخابرات، وراح يُطيِّب خاطري بالثناء على أهل الرقة وكرمهم حين أخبرته أنني من هناك.

***

عِشتُ أيامَ الجامعة في حلب، وعملتُ معيدًا في جامعة تشرين في اللاذقية عامًا واحدًا قبل إيفادي إلى الولايات المتحدة، وكنت في هذه الأثناء أرفض تبني لهجة المدينة التي أعيش فيها، لكني في الوقت نفسه لا أُصِر على الحديث بلهجتي الأصلية، إنما أتحدث لغةً وُسطى لا تمحو هويتي الأصلية ولا تجعلني أبدو كالمُقلِّد البائس من أهل المدن الصغرى أو النائية الذي يشعر بالدونية إذا تحدث بلهجته خارجَ بيئته الأصلية. وكان إصراري على هذا السبيل الأوسط هو ما يستفز الفضوليين "لينزعوا" عني جنسيتي ونِسبتي إلى غيرها. لكن تكرار هذه الحوادث، ولا سيما في اللاذقية، جعلني مع مرور الوقت أقلَّ تشنجًا في ردود أفعالي. وفيما يلي سأذكر ثلاث حوادث طريفة (اثنتين في اللاذقية، والثالثة في ريف حلب الغربي) تبيِّن كيف صرت أتعامل مع من يظن أنني غير سوري.

الأولى حدثت قبل يوم واحد فقط من ذهابي إلى الأردن للتدريس في جامعة جرش الأهلية. كان ذلك في أواخر أيلول سنة 1999. ولأني لا أستطيع النوم من دون الاستماع إلى الأخبار (ما زالت هذه العادة ترافقني منذ أكثر من 30 سنة)، ذهبت إلى السوق مع اثنين من أصدقائي لشراء راديو صغير (كان عندي جهار راديو كبير وغالي الثمن، لكن لم أرغب في حمله عبر الحدود). ومرةً أخرى، لم أكد أنطق بجملة واحدة حتى قال لي صاحب المحل: "الأخ مانك سوري!" قلت له: "لا." سألني: "لَكَن من وين؟" فقلت له ساخرًا: "من الرقة!" استفزَّ ردِّي رجلًا جالسًا في المحل فسألني مستنكرًا قولي: "ليش الرقة مو من سوريا؟" قلت له: "بلى، ولكن الأخ قال إنني لستُ سوريًا، ولم أرغب في مخالفة رأيه!" لم يُعقِّب على هرطقتي غير الوطنية – ولم يقتدني إلى أقرب فرع للمخابرات أيضًا!

***

بعد أقل من عام، كنت أيضًا في اللاذقية التي جئتها من الرقة بعد أن تأجل زواجي بسبب موت حافظ الأسد في اليوم الذي كنت أنوي أن أخطب فيه. في تلك الأيام، ظلت "فاجعة" سوريا الكبرى تؤجِّل أفراحَ مواطنيها الصغرى إلى أن بات استمرارُ الحِداد مَطْعَنةً ونقصًا في الفرح الكبير بعهد الأسد الجديد. وقبل انتهاء الحِداد، ذهبتُ مع صديق لشراء ملابس لي – طبعًا، "ضمن احتفالات شعبنا" بالعهد الميمون المقبل – وتكرر السيناريو ذاته. قال لي صاحب المحل: "كأن الأخ من العراق؟" فقلت له على السجية الساخرة: "بل من طاجيكستان!" فسأل مستغربًا: "وبتحكي عربي كمان؟" فقلت له بلغة خشبية: "نعم، يا أخا المِلَّة والدين، أتحدث العربية الفصيحة وبعض العاميات، ولا سيما العراقية، والإنجليزية والروسية." الروسية أضفتها من كيسي، لأنني إذا كنت طاجيكيًا، فلا بد أنني أعرف الروسية (والحقيقة أنني لم أكن أعرف منها إلا بضع شتائم كنتُ قد التقطتها قبل سنوات من الزملاء في الكلية الحربية وأكاديمية الأسد للهندسة العسكرية). ثم تابعتُ باللغة الخشبية ذاتها لإقناع محدثي بما أزعم: "وقد تعلمتُ العربيةَ على إخوة عراقيين..." (لم أقل: "على أيدي إخوة عراقيين")، فقال مُصَدِّقًا فِراسَتَه البلهاء ومهنئًا نفسه على ذكائه الخارق: "آهاه، لهيك بتحكي مِتْلُن!"

قبل ذلك العام بسنة أو سنتين، ذهبت مع صديق لزيارة صديق آخر في بلدة الأتارب في ريف حلب الغربي. انتهت زيارتنا عند المغرب، وخرجنا إلى الطريق العام ننتظر سيارة أجرة. توقف باص صغير، ومن حسن حظنا – أو لسوئه – أننا وجدنا المقعدين الأماميين بجانب السائق فارغين. ركبنا، فدهمتنا رائحةٌ غريبةٌ – ولذيذةٌ إلى حد ما – آتيةٌ من مقاعد الباص الخلفية. التفتنا وراءنا، فإذا بعشرات الأكياس المليئة بالكوسا المقطوفة للتو. كان اكتشافنا لأكياس الكوسا أول مشهد من الكوميديا التي عشناها طوال رحلة العودة إلى حلب. كان صديقي من بلدة السفيرة، شرقَ حلب، ولذلك لهجته قريبة من لهجتنا. سألنا السائقُ من أين نحن، فأجبته مقلدًا لغة الإعلام السورية في تلك الأيام وبالعربية الفصحى: "من هذا القُطر الصامد!" فإذا به يقول مندهشًا: "من الجزائر؟" لا أعرف كيف فهم أن القُطر الصامد يعني الجزائر، مع أنني لم أُقْسِم له بالنازلات الماحقات ولا بالبنود اللامعات الخافقات. أردتُ أن أصححه، لكن صديقي اختطف زمام المبادرة مني، وأكَّد له أننا من الجزائر بالفعل. ومنذ تلك اللحظة إلى أن نزلنا قريبًا من بيتي في حي المريديان بحلب، والسائق يستجوبنا عما جاء بنا إلى سوريا الشقيقة إلخ، ونحن نلوي ألسنتنا وأحناكنا لتقليد اللهجة الجزائرية وإرضاء فضول صاحبنا الساذج. ولإضفاء شيء من المصداقية على جزائريتنا، كان لا بد من مَذْعِ كلامنا بمفردات فرنسية (كان صديقي قد تخرج في السوربون ويتحدث الفرنسية بطلاقة). ولما نزلنا من الباص أحسست أن حنكي قد تخشَّب من "الهَدْر" طوال نصف ساعة بالجزائرية المزعومة.

وبعد سنوات في عمّان اكتشفتْ إحدى طالباتي بعد حين أنني لستُ عراقيًا، كما كانت تتوهم، وحين قلت لها إنني "شامي" (كما يقولون في الأردن)، تعجبت وقالت، ربما رغبةً منها في التكفير عن ظنها: "هل تعلم يا دكتور أن سوريا هي وطني الثاني؟" فقلت لها ساخرًا: "وأنا كمان!" تطلَّعت إليَّ ولم تفهم عبارتي الملغومة.