في نهاية التسعينيات تمت معاقبتي من جانب إدارة جريدة الثورة في دمشق بنقلي إلى جريدة فرعية تابعة للمؤسسة نفسها، وهي جريدة الجماهير في حلب. وأكثر ما لفت نظري في تلك الجريدة هو عنوانها الرئيسي (المانشيت) والعناوين الرئيسة الأخرى، والتي لا تتصل بشأن من شؤون المحافظة التي تهم سكانها، كما هو مفترض، بل مجرد تكرار باهت لعناوين الصحيفة المركزية في دمشق، أي عناوين سياسية تتعلق بالصراع مع إسرائيل وشؤون المنطقة الأخرى.
هنا خطر في بالي لماذا هذا التماهي مع صحافة العاصمة، برغم أنه من المفروض أن تكون للصحيفة المحلية الخاصة بمدينة ما اهتمامات مختلفة تعنى بالشؤون اليومية والخدمية والاقتصادية والسياحية لتلك المدينة؟ وهذا الواقع قد يفسر بعض جوانب العلاقة بين المركز وبقية المحافظات والمدن، من حيث هي علاقة تبعية مطلقة من جهة، وغير مدروسة ولا عقلانية من جهة أخرى.
وهذا الحديث حول العلاقة بين المركز والأقاليم (المحافظات) أثير منذ وقت مبكر بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، أولاً من جانب بعض ممثلي المكون الكردي في سوريا في سعيهم للحصول على قدر من الاستقلالية في إدارة شؤونهم اليومية، قبل أن تدور أحاديث في إطار أوسع عن نظام حكم لا مركزي أو فيدرالي يشمل مجمل المناطق السورية، وليس مناطق الكثافة الكردية فقط.
ثمة توافق على نطاق واسع سواء بين النخب السورية أم القوى المحلية الفاعلة في كل منطقة على ضرورة مراجعة نظام الحكم المركزي الذي ساد في سوريا لأكثر من ستة عقود
وفي الفترات الأخيرة أثير مثل هذا الطرح في المناطق الجنوبية في محافظة السويداء أولا ثم في محافظة درعا عبر بيان نسب إلى عشائر حوران، وإن كان البعض شكك بصحته.
والواقع، أنه بغض النظر عن الأهداف السياسية أو الوقتية لمثل هذه الطروحات التي لا يمكن التثبت من مدى تطابقها مع تطلعات سكان كل منطقة، فإن ثمة توافقاً على نطاق واسع سواء بين النخب السورية أم القوى المحلية الفاعلة في كل منطقة على ضرورة مراجعة نظام الحكم المركزي الذي ساد في سوريا لأكثر من ستة عقود، والذي كان يخدم آلية حكم قمعية وغير شفافة احتكرت السلطة وموارد البلاد، وحرمت كثيراً من المناطق من حقها في التنمية الاقتصادية أو المشاركة العادلة في السلطة المركزية.
والأشكال المطروحة للحكم اللامركزي لا تبدو ناضجة بما فيه الكفاية حتى الآن، ذلك أن خلفياتها سياسية مرحلية، وتستقوي أحيانا بقوى خارجية، ولم تنبثق تاليا عن نقاش وطني تشارك فيه النخب السورية بتوجهاتها المختلفة، بما ينتج صيغة مناسبة من الحكم اللامركزي لعموم البلاد، يجري تثبيتها في دستور عصري متوافق عليه.
والطروحات الصادرة من شرق البلاد من جانب بعض القوى الكردية لا يمكن القياس عليها لأنها قائمة على أساس عرقي، فيما تلك المنطقة مختلطة ومتداخلة عرقياً.
بناء النظام اللامركزي لا يمكن أن يتم إلا بالتوازي مع بناء مؤسسات مركزية ديمقراطية في العاصمة، في إطار نظام سياسي قائم على المواطنة المتساوية
وعلى هذا، فإن التركيز يجب أن يكون على مفهوم اللامركزية، وهو مفهوم واسع يقوم على توزيع سلطة اتخاذ القرار على عدة مستويات، وعدم حصرها في مكان واحد. وثمة أشكال كثيرة من اللامركزية، أبرزها الإدارية والتي تقضي بتوزيع صلاحيات سلطات المركز غير السيادية على الحكم المحلي المنتخب، مع وجود جهة رقابية مركزية مستقلة (قضائية) للفصل في الخلافات بين الحكم المحلي والمركز، بهدف الحفاظ على وحدة البلاد السياسية، فيما تبقى السلطات السيادية مثل السياسة الخارجية والجيش الوطني، والسياسات الاقتصادية والمالية العامة، بيد المركز.
وبطبيعة الحال، فإن بناء النظام اللامركزي لا يمكن أن يتم إلا بالتوازي مع بناء مؤسسات مركزية ديمقراطية في العاصمة، في إطار نظام سياسي قائم على المواطنة المتساوية، في ظل دستور متوافق عليه، وإلا فإن "مركزيات" الأمر الواقع، من دون توافق وطني، ستكون نتيجتها الحتمية تفتيت وحدة البلاد، وإقامة كانتونات ضعيفة متنازعة، ضمن البلد الواحد، بأنماط استبدادية لا تختلف كثيراً عن استبداد المركز، وأكثر تبعية للخارج، ما يجعلها تالياً عاجزة عن تحقيق التنمية الاقتصادية، بحكم مواردها المحدودة.
ومن هنا، فإن نجاح النظام الديمقراطي اللامركزي مرهون بأن يكون على أساس إداري أو جغرافي، وليس إثنياً أو طائفياً، وفي إطار توافق وطني، وليس تحت ضغط التدخلات الخارجية.