كثرت في العصر الحديث ظاهرة الحروب بالوكالة ويشير مفهوم الحروب بالوكالة إلى الفترات التي تتنافس فيها قوى إقليمية أو دولية كبرى على النفوذ في منطقة أو دولة ما أصغر في العالم، وبالتأكيد فإن الهدف من الحرب بالوكالة هو تجنب هذه القوى إلى أقصى حد الدخول في مواجهات وحروب مباشرة مكلفة فيما بينها، فتلجأ عوضا عن ذلك في زيادة نفوذها من خلال عدة أساليب كالتدخل في سياسات ونهج بعض الدول التي تمثل قيمة استراتيجية أو جغرافية واقتصادية لها، أو أنها تقوم بدعم بعض الجماعات الإثنية أو الطائفية أو الحزبية لإسقاط أنظمة أو زعزعة أمن دولة معادية لها وموالية لأعدائها كما تفعل موسكو منذ 2014 في دعمها لانفصالي إقليم الدونباس ووضعهم في مواجهة حكومة كييف المنتخبة.
عمليا بدأت الحروب بالوكالة في تاريخنا المعاصر بعد نهاية الحرب الباردة عام ١٩٩١، التي كانت دائرة بين الاتحاد السوفييتي سابقا وبين الولايات المتحدة الأميركية والتي خرجت فيها واشنطن منتصرة بهذه الحرب بعد أن استطاعت تفكيك الاتحاد السوفييتي إلى دويلات عديدة مستقلة، لكن بقيت روسيا واحدة موحدة، وتسعى لاستعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي حتى لو بصيغة أخرى جديدة.
المنطقة العربية أس وأساس الحروب بالوكالة:
الملاحظ أن أغلب الحروب بالوكالة التي تجري الآن تقام وتدار على ميادين الأراضي العربية (العراق وسوريا واليمن)، وهذا للأسف الشديد مرده إلى الضعف والتشرذم العربي المزري والمخيف وحالة التمزق والتبعية اللامسؤولة والعمياء للأنظمة العربية للقوى الدولية المتنفذة والعظمى، على حساب المصالح الاستراتيجية العليا للأمن القومي العربي، بل حتى تكون في غالب الأحيان على حساب الكثير من المصالح الوطنية للشعوب العربية التي تأن تحت وطأة وظلم وجور حكامها.
لقد توسعت في عصرنا الراهن الحروب بالوكالة بطريقة سريعة جدا وخاصة تلك التي تحدث في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، حيث باتت منطقتنا العربية ساحة صراع دولي تمارس فيها للأسف كل أشكال الحروب بالوكالة، والتي تقف خلفها وتزيد من حدتها دول عالمية وإقليمية متنفذة لتنفيذ أهدافهم واستراتيجياتهم المختلفة والمتخالفة في هذا البلد أو ذاك.
لا شك أنه ومن أبرز الحروب بالوكالة التي تدور الآن هي الصراعات القائمة التي تجسدت بشكل كامل وواضح في كل من سوريا وليبيا واليمن ولبنان والعراق، ومن الممكن لهذه الحروب أن تتسع أكثر فأكثر في تلك الساحات، أو بولادة ساحات صراع جديدة أخرى ودخول أطراف دولية جديدة في إدارتها والتحكم فيها وحصاد نتائجها.
سوريا والتحول التدريجي لميدان تصفية حسابات وحرب بالوكالة:
واقعيا ورغما عنها فلقد أصبحت سوريا تعتبر من أبرز الأمثلة الحديثة على شراسة الحروب بالوكالة التي اندلعت على أراضيها بلا حول من شعبها ولا قوة. ففي سنة 2011 بعيد اندلاع الثورة السوريَة وفي السنوات التي تلتها، تحول الصراع بين فصائل الثورة المسلحة وجيش الأسد وميليشياته الطائفية العابرة للحدود إلى حرب متدرجة واسعة شملت غالبية المناطق السورية، وما لبثت أن أفرزت عدة توجهات وحروب. فقد دخلت الولايات المتحدة الأميركية في الصراع على الأراضي السورية بإنشاء تحالف عسكري دولي ضد تنظيم الدولة (داعش) في العراق وبلاد الشام، كما تحولت أيضا الجغرافيا السورية إلى ساحة للمواجهة ما بين إيران الشيعية وحزب الله اللبناني والعراقي وأذرعهم من الميليشيات التي أدخلوها للقتال إلى جانب نظام الأسد من ناحية والفصائل الثورية المسلحة والشعب السوري من ناحية أخرى.
بعد ذلك دخلت روسيا وتركيا وإسرائيل على خط المواجهات وحروب الوكالة في سوريا. فاندلعت أيضا مواجهات وتصفية حسابات ما بين إسرائيل وإيران التي تمددت وأصبحت أذرعها وحرسها الثوري وصواريخها منتشرة على كامل الأراضي السورية وصولا لمشارف الجولان المحتل، وكما تقول إسرائيل إنها باتت تهدد أراضيها و أمنها القومي، ناهيك أيضا عن المواجهات الدامية ما بين تركيا والتنظيمات الكردية كحزب العمال الكردستاني وأذرعه في سوريا التي تحاول جاهدة إقامة جسر وكردور انفصالي يصل كانتوناتها في شمال شرقي سوريا مع بعضها، وهذا ما لا تسمح أنقرة به لاشتماله على تهديد مباشر لحدود تركيا الجنوبية وأمنها القومي، علما بأن "أنقرة" تحارب مقاتلي العمال الكردستاني منذ ثمانينيات القرن الماضي على أراضيها وخارج أراضيها في كل من سوريا والعراق..
كان الصراع في سوريا في بداياته 2011 بين شعب مضطهد وبين نظام قمعي استبدادي مجرم، ولكن تواطؤ وتراخي المجتمع الدولي بهيئاته ومنظماته، وانحيازه التام بشكل أو بآخر للنظام الأسدي زورا خشية استرداد الشعب السوري حقوقه من هذا النظام المستبد، وعلى ما يبدو أن هذا الأمر لا تحتمله أو يروق لغالبية الأطراف الدولية وبعض الدول العربية، فبدأت هذه الأطراف تغض الطرف عن التدخل المباشر في الشأن السوري لإيران وروسيا والصين ودول أخرى بشكل غير مباشر لدعم نظام الأسد ومنع تهاويه وسقوطه، وإعادة التوازن إليه ولو كان هذا الأمر يأتي على حساب تضحيات وآلام السوريين ودمائهم وويلاتهم، والجرائم التي ارتكبها نظام الإجرام الأسدي بحقهم طوال أكثر من 11 عاما.
من خلال المتابعة فعمليا هناك شروط يجب أن تتوافر ليتم اعتمادها من قبل اللاعبين الكبار في دعمهم وتغذيتهم وإدارتهم للحروب بالوكالة، ومن أهم هذه الشروط أن تكون هذه الحروب في جغرافيا بعيدة نسبيا عن جغرافيتهم خشية من ارتداداتها وعواقبها عليهم، لهذا نجد أن أميركا وروسيا وفرنسا وغيرها قد حرصوا كل الحرص على أن تكون مناطق الشرق الأوسط وأفريقيا والبلدان الناشئة عموما والمنطقة العربية خاصة هي ساحات الصراع المفضلة لتصفية الحسابات واستغلال مثل هذا النوع من الحروب البعيدة عنهم وعن مصالح بلادهم وأمنهم القومي.
خاتمة.. إن التحولات وحروب الوكالة التي شهدها الصراع والثورة السورية للأسف لم يعد المتحكم بها أطراف المعادلة السورية الداخلية فلقد انتقل مركز الثقل والقرار من الداخل إلى الخارج، ومن المحلي إلى الدولي، وذلك لأن مصالح الخارج واستراتيجياته، لا تلتقي مع مصالح أطراف الصراع الداخلي، وغالبا ما يتأثر القرار الداخلي بضغوط الخارج وتهديداته.
فمن المعروف أنه عندما تتصادم مصالح الدول الكبرى على أرض دولة صغيرة في ظل صراع ما بحرب بالوكالة، ولكن الأزمة السورية هي أكثر تعقيدا حتى من اختصارها في عبارة "حرب بالوكالة" ويمكننا أن نلمس بعضا من هذه التعقيدات بسبب طول سنوات الصراع الإحدى عشرة، ومن كثرة الخسائر البشرية والمادية فيها، ومن استخدام الأسلحة كلها، ومن كثرة اللاجئين الذين نزحوا خارج ديارهم ولجؤوا إلى كل بقاع المعمورة، ومن غياب الحلول السياسية الممكنة للأزمة ومراوحة القتال حاليا في مكانه، فلا غالب ولا مغلوب، والخارج والمجتمع الدولي المنافق ينتظر مرحلة ركوع الطرفين معا، لكي يستثمر هذا الركوع في حل يلبي مصالحهم يمليه على الطرفين للقبول به وربما من شدة وطول المعاناة والألم حتي التصفيق والتهليل له.