قبل نحو قرنين من الزمن، وفي فترات متقاربة، أصدرت بريطانيا العظمى وفرنسا، قوانين لإلغاء العبودية بمستعمراتها المنتشرة بمعظم أنحاء العالم، في ذلك الوقت، اعتبر هذا القانون انتصاراً لحقوق الإنسان، حيث كسب مئات الآلاف من العبيد حريتهم، بعد فترات طويلة من الاستعباد.
وخلال القرن الماضي، وتحديداً في العام 1942 أعلنت الأمم المتحدة عن "الاتفاقية الدولية لإلغاء كل أشكال الرق"، وتحتفل في 2 من كانون الأول من كل عام بـ "اليوم العالمي لإلغاء الرق"، وأيضاً تم اعتبار هذا الإعلان انتصارا آخر لحقوق الإنسان.
لكن، هل يمكن اعتبار أن العبودية انتهت، والبشر أصبحوا فعلاً أحراراً؟
أشكال جديدة مزدهرة من العبودية
خلال النصف الثاني من القرن الماضي، ومع النمو السكاني المتزايد، أنتج الاقتصاد الرأسمالي أشكالا جديدة ومزدهرة من الاستعباد في أماكن مختلفة من العالم، يمكن اعتبارها أكثر خطراً وأشد قسوة، فالعبيد في هذه الحالة من دون أغلال وسلاسل حديدية واضحة، بل هي قيود فرضها الاقتصاد الرأسمالي على فئات عديدة من البشر، يستطيع من خلالها استغلالهم والتحكم بحياتهم وسلبهم حريتهم، وإجبارهم بالعنف والإكراه والخداع على العمل لأجل تحقيق النفع والربح للأسياد الجدد.
ويؤكد كثير من الاقتصاديين في العالم، ومنهم الفرنسي توماس بيكيتي، أن القرن الحالي رسّخ تناقص الأجور وزيادة الأرباح، ويقول في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" إن "99 % من ثروة العالم المستثمرة هي تحت سيطرة 1 % فقط من سكان العالم، أو ما يساوي 75 مليون إنسان فقط من أصل 7.8 مليارات نسمة".
هذه النسبة تعني أن هناك نحو مليار إنسان في حالة فقر شديد، يعيش معظمهم على أقل من دولار واحد في اليوم، وهذا يعني أنهم محرومون حتى من أبسط الاحتياجات الغذائية الأساسية، فماذا عن الصحة والتعليم وغيرها من الحقوق الأساسية؟
سوريا من أعلى البلدان خطراً في مؤشر العبودية الحديثة
قدّمت "منظمة العمل الدولية" معلومات صادمة حول العبودية الحديثة وأشكالها، وبحسب إحصائيات أجريت في العام 2016، يوجد أكثر من 40.3 مليون إنسان في العالم ضحايا للعبودية الحديثة، منهم 25 مليون إنسان يعملون قسرياً بنظام السخرة، و5 ملايين يُستغلون في الدعارة والجنس القسري.
وتوضح الإحصائيات أن العبودية الحديثة أشد وطأة على النساء والفتيات، حيث يمثلن حوالي 71 % من إجمالي ضحاياها بتجارة البشر، كما تمثل النساء 99 % من ضحايا تجارة الجنس، و84 % من ضحايا الزواج القسري.
وتجارة البشر تأتي بالمركز الثالث عالمياً في سلم أكثر التجارات المربحة بعد تجارة المخدرات وتجارة السلاح، وتقدر حجم تجارة البشر بنحو 32 مليار دولار سنوياً، منها 18 مليار تأتي من تجارة الجنس، وتقدر عدد ضحاياها بحوالي 20 مليون شخص.
ومن خلال مؤشر العبودية العالمي، صنّفت سوريا الأعلى عربياً في معدل انتشار للعبودية الحديثة، وأعلى عدد مطلق لعدد ضحاياها، حيث يمثّلون ما نسبته 76 % من ضحايا العبودية الحديثة في المنطقة، في حين سجّلت كل من العراق واليمن المراتب الثانية والثالثة.
وتعتبر الولايات المتحدة الأميركية وبلدان أوروبا الغربية واليابان في صدارة الدول المستقبلة للبشر المستَغلين في تجارة الجنس، ويأتي أغلب الضحايا من بلدان العالم النامي في آسيا وأفريقيا وشرق أوروبا.
أشكال متعددة للعبودية الحديثة
وتظهر حالات العبودية المعاصرة في عدة مجالات، مثل مجال صيد الأسماك في تايلند، وقطاع المعادن في كوريا الشمالية، وإنتاج الكاكاو في غانا وساحل العاج، ومزارع المواشي في البرازيل، ومجال غسل السيارات في بريطانيا.
وفي الدول العربية يصل عدد ضحايا العبودية الحديثة إلى حوالي 529 ألف إنسان، بمعدل 1% من إجمالي عدد العبيد في العالم، يخضع حوالي 67% منهم للعمل بالإكراه، ونحو 33% للزواج القسري، مقسمين على 11 دولة عربية أبرزها سوريا والإمارات.
أيضاً تقول إحصائيات منظمة العمل الدولية أن نحو 152 مليون طفل (حوالي 10 % من أطفال العالم) يستغلون في العمل الإجباري، 70.9 % منهم في مجال الزراعة، و17.1 % في قطاع الخدمات، و11.9 % في قطاع الصناعة.
ويوجد معظم هؤلاء الأطفال في أفريقيا 72 مليونا، ثم آسيا 62 مليونا، ثم الأميركيتين 10.7 ملايين، ثم أوروبا وآسيا الوسطى 5.5 ملايين، وفي الشرق الأوسط 1.2 مليون طفل.
كما يوفر العنف والنزاع المسلح في دول كثيرة أرضاً خصبة لتجنيد الأطفال، وهو أحد أشكال العبودية الحديثة، مما يحرمهم من أقل الحقوق الاجتماعية، مثل التعليم والصحة والعيش ضمن العائلة، وتقدر الأمم المتحدة أن أكثر من 300 ألف طفل استخدموا جنوداً في النزاعات المسلحة في دول عديدة مثل الصومال وجنوب السودان ونيجريا والكونغو وسوريا.
عبودية الشركات
من جانب آخر، نرى شكلاً آخر للعبودية اصطلح على تسميته عبودية الشركات الكبرى، والتي تتجسد بشكل أساسي في مصانع تنتج سلع ذات شهرة عالمية كالألبسة والإلكترونيات، أقيمت في شرق آسيا مثل الصين أو تايلند أو فيتنام أو بعض الدول الأفريقية تتضمن توظيف العمال ضمن بيئة عمل قاسية للغاية وأجور متدنية.
ومن الأمثلة الواضحة لهذا الشكل من العبودية مصانع شركة "فوكسكون" في مدينة شنتشن الكبرى في الصين، وهو المصنع الرئيسي لمنتجات شركة "آبل" الأميركية لصناعات التكنولوجيا.
وبحسب تحقيق استقصائي أجرته صحيفة "الغارديان" البريطانية، يوجد نحو 1.3 مليون عامل في المصنع جزء كبير منهم من الطلاب والمراهقين، يعملون في ظروف عمل قاسية للغاية وبأجور متدنية جداً دون أي حقوق كالرعاية الصحية والتأمين ضد المخاطر، ويتعرضون للإذلال وكثرة الغرامات في سبيل تحقيق الإنتاج المطلوب منهم.
وذكر تقرير آخر أن بعض العمال يقدمون على الانتحار نتيجة ضغوط وظروف العمل القاسية، ومن عمال المصنع نحو 450 ألف عامل يقيمون في مجمعات سكنية داخل المصنع في ظروف أقل ما يمكن القول عنها أنها شبيهة لظروف عيش العبيد في مزارع السكر في الكاريبي في زمن العبودية.
وفي هذا السياق أيضاً، توجّه بشكل دائم انتقادات حقوقية واتهامات بالعبودية لشركات عالمية مثل Nike وH&M وZARA، بسبب استغلال العمال في مصانعها في دول فقيرة مثل فيتنام وتايلند والفلبين وبنغلادش، ومن ضمنهم أطفال، على العمل لأكثر من 12 ساعة يومياً، ضمن أجور متدنية جداً، وفي ظروف عمل غاية في السوء.
لم تدرج أي دولة حتى الآن مصطلح "العبودية الحديثة" ضمن الأطر القانونية، ولهذا السبب، يمكن مشاهدة الأشكال الحديثة من العبودية في كل مكان بالعالم تقريباً.
وضمن سياق العولمة والاقتصاد الرأسمالي المتوحش، الحظوة للمال وليس للبشر، فالبشر هنا يتم تصنيفهم ضمن فئات تحت مسمى "الموارد البشرية"، وفي هذه الحالة يتحول البشر ليس فقط إلى عبيد، بل إلى أدوات ومنتجات وسلع، يتم استغلالهم واستهلاكهم إلى الحد الأقصى، وبعد ذلك يتم رميهم كقطع غيار انتهت صلاحيتها.
اقرأ أيضاً: هل أصبح السوريون رقيق القرن الحادي والعشرين؟