سوريا.. حيث لا يمتزج الزيت بالماء

2024.09.21 | 07:15 دمشق

آخر تحديث: 21.09.2024 | 07:15 دمشق

522222222
+A
حجم الخط
-A

نرث أوطاننا مثلما نرث ملامحنا وحمضنا النووي ومعتقداتنا وأفكارنا في أغلب الأحيان، يصبح حب الوطن والرغبة في التضحية من أجله بدهياً لا يقبل النقاش، حتى تصبح علاقة كل منا مع بلاده من التعقيد والبساطة في آن واحد بشكل لا يمكن فهمه تماماً.

من ناحية القانون، فإن المواطنة أمر معرّف وواضح، وهي "العلاقة القانونية والاجتماعية التي تربط الفرد بالدولة"، وتمنحه مجموعة من الحقوق وتفرض عليه واجبات معينة، يتمتع الفرد بموجبها بالحماية القانونية والمشاركة في الحياة السياسية، مثل التصويت والترشح للمناصب العامة، في مقابل التزامه بالقوانين ودفع الضرائب وخدمة المجتمع.

تعترف الدول في دساتيرها بالمواطنة بطرق مختلفة، مثل الولادة: حيث يحصل الفرد على الجنسية بسبب ولادته على أرض الدولة أو لكونه ابناً لأحد مواطنيها، أو بالتجنيس: عن طريق إجراءات قانونية تشترط الإقامة أو الزواج.

في الحالة السورية.. فإن من ناصر الثورة السورية فعل ذلك حباً ببلاده ورغبةً في الدفاع عنها، ولكنهم في المقابل (المناصرون) ومنذ بداية الثورة السورية يتعرضون لحملات تشويه وتخوين وتشكيك بإخلاصهم ووطنيتهم. ووصل الحد إلى أن الدولة شرعنت مصادرة أملاكهم ووضع يدها عليهم، وقد رافق ذلك تهديد من المؤيدين بسحب جنسيتهم السورية، على اعتبار أنهم وحدهم من دافعوا عن البلاد ومنحوها حبها، وفقاً لذلك، فهم الجديرون بتحديد من يمكنه الاحتفاظ بجنسية وطنه الأم ومن يُعاقَب بسحبها منه، وكأن الجنسية وفقاً لقوانينهم امتياز وليست حقاً مكتسباً بالضرورة لا يملك كائن من كان التهديد بها.

يمكن منح الجنسية بشكل استثنائي للأفراد الذين يقدمون خدمات جليلة للدولة السورية أو الذين لديهم مؤهلات علمية أو فنية عالية.

لقد عمل مؤيدو النظام ووسائل إعلامه الرسمية والمساندة على تشويه صورة المعارضة وربطها بأفكار ومؤامرات تهدف إلى زعزعة استقرار سوريا، وذلك بتخوينهم وربط المعارضة بالخيانة الوطنية واتهام المعارضين بأنهم أدوات لقوى خارجية هدفها تقسيم البلاد وإضعافها، لتقويض شرعية مطالبهم بإظهار أن ولاءهم ليس لسوريا بل لقوى أجنبية أو طائفية لأن الولاء للنظام الحاكم هو الدليل على حب البلاد.

يحدد قانون الجنسية السوري الشروط والآليات التي يمكن من خلالها للأفراد الحصول على الجنسية السورية، فوفقاً لأحكام المرسوم التشريعي رقم 276 لعام 1969، يمكن الحصول على الجنسية السورية بطرق عدة، بالولادة أو بالاكتساب بصيغة لا تختلف عن بقية قوانين الجنسية في العالم، غير أن التجنيس في سوريا ليس حقاً مطلقاً، ويخضع لتقدير السلطات المختصة التي يمكنها قبول أو رفض الطلب.

واستناداً إلى القانون نفسه كان من حق السلطة السياسية منح الجنسية لمن تراه مناسباً لذلك، بموجب النص التشريعي الذي يبيح للرئيس منح الجنسية السورية بموجب مرسوم رئاسي في بعض الحالات الخاصة، "يمكن منح الجنسية السورية بموجب مرسوم رئاسي دون الحاجة إلى تلبية الشروط العادية للتجنيس".

كذلك يمكن منح الجنسية بشكل استثنائي للأفراد الذين يقدمون خدمات جليلة للدولة السورية أو الذين لديهم مؤهلات علمية أو فنية عالية، ويجدر الذكر بأن هذه الاستثناءات كانت موجودة على الدوام، في وقت لم تستجب فيه السلطة التشريعية للمطالبة بسنّ تشريع يعطي المرأة السورية الحق في منح الجنسية لأبنائها.

هذا وقد منح المشرع السلطة السياسية حق إسقاط الجنسية أو سحبها، في حالات معينة، مثل ارتكاب جرائم ضد الدولة، أو الحصول على جنسية دولة أخرى دون إذن، أو تقديم معلومات كاذبة للحصول على الجنسية، وهو بذلك يتعامل معها وكأنها امتياز يمنحه أو يمنعه وفقاً لمصالح السلطة السياسية، ما يثبت أن المجلس التشريعي في سوريا كان على الدوام مجرد أداة تحركها السلطة وفق ما تريد من دون إحداث أثر تشريعي وقانوني فعلي.

في وقت تعالت فيه الصيحات للمطالبة بحرمان المعارضين من جنسيتهم، شهدت سوريا حالات تجنيس جماعي للمرتزقة الإيرانيين ومن هم مثلهم حتى يصبحوا مواطنين يتمتعون بحقوق المواطن في الانتخابات والتمثيل التشريعي، وهو أمر غايته العبث في تركيبة المجتمع السوري، وكان ذلك جزءاً من استراتيجية أوسع استخدمها النظام بعد الثورة، كافأ فيها المقاتلين الأجانب الذين دعموا النظام لتثبيت نفوذ إيران في سوريا التي تعد حليفاً استراتيجياً له.

تشهد سوريا في السنوات الأخيرة حالة استيطان كاملة الأركان ممنهجة ومدروسة لا تختلف في الجوهر عن الاستيطان الذي تعرضت له فلسطين.

تحدثت بعض التقارير الإخبارية عن إسكان هؤلاء المقاتلين المجنّسين وعائلاتهم في مناطق هُجّر منها سكانها المحليون من جراء الحرب التي شنها النظام عليها، بهدف تغيير الهوية الثقافية لتلك المناطق، وهو أمر غضّ العالم عنه الطرف على الرغم من أنه يُساهم في خلق توترات بين من يفكر من السوريين في العودة إلى بلاده وبين السوريين الجدد، وهو أمر من المفترض الحذر بخصوصه مع استمرار الضغط العالمي لحل أزمة اللاجئين.

سهّل منحهم الجنسية إقامتهم الدائمة في البلاد ومنحهم حقوقاً قانونية وسياسية، وهو ما مهد لإحداث تغييرات ديمغرافية في بعض المناطق السورية، التي كانت معاقل للمعارضة مثل دمشق وضواحيها، وريف حمص وحلب، لتغيير التركيبة السكانية، وذلك بإحلال سكان موالين للنظام مكان أولئك الذين هُجّروا نتيجة الحرب، مما يعزز النفوذ الإيراني ويزيد من تعقيد الصراع السياسي في البلاد، وقد يؤثر على مستقبل سوريا السياسي والاجتماعي ويعزز نفوذ طهران في تحديد مستقبل البلاد.

علاوةً على أن منح الجنسية لأفراد لا يرتبطون ثقافياً أو اجتماعياً بالتراث والتاريخ السوري يمكن أن يؤدي إلى أزمة هوية لدى المقاتلين أنفسهم، ويضعنا في مواجهة حقيقة أن المجنّسين الجدد قد يكونون أكثر ولاءً للقوى أو الدول التي أرسلتهم للقتال في سوريا، مثل إيران، وهذا قد يضعف الروح الوطنية ويعزز الولاءات الخارجية على حساب الولاء للدولة السورية. ويمكن أن تظهر هوية متعددة الولاءات داخل المجتمع، ما يؤدي إلى تعميق الانقسام الوطني والسياسي، وهو ما لا يبشر بوجود مناخ مستقر مثلما يدعي المجتمع الدولي.

إن حساسية المسألة السورية لا تأتي من التجنيس بحد ذاته، بل إنها تصبح أكثر حدة بسبب الظرف السوري الخاص، لأن المجنّسين الجدد قد يحصلون على امتيازات اقتصادية أو اجتماعية، مثل الأراضي أو السكن، ما يمكن أن يُشعل غضب السكان المحليين الذين يعانون من التهجير أو الأوضاع الاقتصادية الصعبة. كما أنها تجعل الرهان على الاستقرار السياسي في المستقبل صعباً، لأن زيادة عدد الأفراد المجنّسين، خاصة إذا كانوا من المقاتلين أو المرتبطين بفصائل عسكرية، قد تجعلهم قوى ضاغطة في المشهد السياسي، فيدفعون باتجاه سياسات تخدم مصالحهم أو مصالح الدول التي ينتمون إليها، وهو ما قد يؤدي بالضرورة إلى مزيد من الانقسام السياسي وخلق كتل سياسية جديدة تدافع عن مصالحها الخاصة.

إن مثل هذه الهزات الاجتماعية التي تؤسس لتمايز حاد في اللغة، والعادات، والممارسات الدينية، وحتى النظام الاجتماعي، ستخلق بدورها صعوبة في تحقيق التجانس الاجتماعي، وتؤدي إلى توترات بين المجتمعات المحلية والوافدين الجدد، ليجد العالم نفسه أمام عوائق جديدة تمنع عودة اللاجئين المرجوّة إلى جانب خطر بقاء الأسد في السلطة متسلحاً بنظامه الأمني، لأن ذلك وحده قادر على منع اللاجئين السوريين في الخارج من العودة إلى بلدهم الأم، لمعرفتهم المسبقة بعدم إمكانية اندماجهم وانسجامهم مع المكون السوري الجديد.

تشهد سوريا في السنوات الأخيرة حالة استيطان كاملة الأركان ممنهجة ومدروسة لا تختلف في الجوهر عن الاستيطان الذي تعرضت له فلسطين، إذ اضطر السوريون للهرب من وحشية النظام للنجاة من المجزرة التي نفذها فيهم، فصادرت السلطات أملاكهم ومنازلهم ومنحتها لمن قاتلوا السوريين وقتلوهم لتشكل منهم شعباً جديداً يعزز شرعيتها المفترضة.

إن تلاعب السلطة السياسية بمنح الجنسية وإسقاطها وعدّها ملكاً خاصاً يكافئون به ويعاقبون، يجرد الوطن من مفهومه المعروف ويجعل معناه فارغاً، ويعزز أزمة السوريين في علاقتهم الإشكالية مع بلادهم التي أُخرجوا منها عنوةً ولا يستطيعون العودة إليها في ظل ظروف سياسية واجتماعية معقدة.