يحار المرء في تكوين وجهة نظر متماسكة حيال الانتخابات الأميركية ونتائجها. ظروف الشرق الأوسط والعالم المأزوم عموماً، على الصعد الاجتماعية والاقتصادية، يدفع أي مواطن تحت وطأة الحملات الإعلامية الضخمة والرهانات الكثيرة إلى الانحياز إما إلى دونالد ترامب أو جو بايدن. في مفاضلة الاختيار، يختلف الحلفاء بين بعضهم.. وقد يلتقي الأخصام. شخصياً، لم أتمكن من بناء وجهة نظر تتيح لي تأييد مرشح في مواجهة الآخر. وبمعزل عن كل حماسة خصوم إيران لعودة ترامب، فهو أعلن أنه يريد الذهاب إلى اتفاق معها. وبايدن الديموقراطي، يعلن في برنامجه نية العودة إلى الاتفاق النووي. نجح ترامب في فرض ضغوط قاسية على إيران، لكنه يبني تفاهماً تلو التفاهم مع روسيا، وكل استراتيجيته لم تؤد إلا إلى تلبية مصالح إسرائيل. هو يريد تحالفاً عربياً إسرائيلياً، وروسياً إيرانياً، تحت الجناح الأميركي لمواجهة الصين. بايدن، يفضل التشارك مع الصين لمواجهة روسيا.
بعيداً عن كل هذه الحسابات السياسية والاستراتيجية، تبقى أميركا هي أميركا، دولة عميقة باستراتيجيات بعيدة المدى لا تتأثر بتغيّر الأشخاص.
تبقى للانتخابات الأميركية فرادة استثنائية، ونموذجاً لم ينجح أحد في ابتكاره، يكشف عن حيوية دائمة، ويفرض نفسه نموذجاً متقدماً على الرغم من كل الانتقادات والاشكالات. فبمجرد هذا الكم من الغموض الذي يحيط بالعملية الانتخابية، وتعارض استطلاعات الرأي مع النتائج في مراحل كثيرة.. ما يضفي تلك الميزة على هذا النموذج الذي لم يتمكن أحد من استنساخه. فهي تظل انتخابات لا يمكن توقع نتائجها، بخلاف الواقع في روسيا، أو إيران أو الصين.
ما يهمنا أنه ليس بالضرورة أن ينعكس تغير الرئيس تغيراً استراتيجياً في السياسة الأميركية. فمثلاً استراتيجية العلاقات العربية الإسرائيلية هي مسألة مصيرية أميركياً ولا يمكن أن تتغير بتغير الرئيس. الملف الإيراني كذلك، وإن اختلف الأسلوب. فترامب أعلن أنه لو عاد فإنه سيذهب إلى اتفاق مع إيران. وبايدن يريد العودة إلى الاتفاق النووي بتعديلات بسيطة. بهذا المعنى يختلف الأسلوب بين الطرفين فقط. وقد يستمر منهج العمل نفسه في آلية التعاطي مع إيران، عبر استخدام العقوبات، التي قد تفتح المجال أمام ترتيب تفاهمات معينة، فيكون الصراع بارداً وليس حامياً، ويتصارع الطرفان على الشروط وليس على أصل الهدف والغاية، وذلك تحت عناوين أساسية: حماية المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، وتوفير أمن إسرائيل، مع تشذيب مناطق نفوذ القوى الأخرى.
فرضاً إن لم يفز ترامب، فسيبقى في البيت الأبيض لشهرين مقبلين. ولا يمكن الحديث عن الإقلاع عن السياسة الأميركية التي أرساها سريعاً. قوانين كثيرة لا يمكن أن تتغير أبرزها قانون قيصر، ووضع حزب الله القانوني لن يتغير، وسيبقى مصنفاً إرهابياً، حتى ولو تحسنت العلاقات الأميركية الإيرانية.
بلا شك أن الصورة الكبيرة ستؤثر على وضع المنطقة، يكنّ بايدن العداء الكبير والقوي لروسيا، بعكس ترامب الذي يكن العداء للصين. وبحال بقي سيتم تفعيل العلاقة مع الروس، والعمل للوصول إلى حلّ للأزمة السورية، خصوصاً أنه لا يريد البقاء في سوريا ولا في العراق. وهذا يحتاج إلى اتفاق مع الروس ليتمكن من الانسحاب والتوجه لمواجهة الصين.
مع بقاء ترامب ستكون فرص الحلول للأزمة السورية، أقوى من وصول بايدن. وذلك يرتكز على جملة معطيات، أولاً العلاقة مع روسيا، ثانياً العلاقة مع تركيا، وثالثاً رؤية ترامب للمنطقة. أما بايدن فلم يعلن عن نيته الانسحاب من سوريا. وهو سابقاً كان قد أعلن رفضه لقرار ترامب بالانسحاب من هناك. ترامب ببراغماتيته، لا يرى أي مشكلة ببقاء الأسد شرط عقد الصفقة. أما كل المحيطين ببايدن فيعارضون بشار الأسد، ويعترفون بخطأ ارتكبه باراك أوباما في تمكين النظام السوري، وسحق الثورة السورية. وهناك قراءة تفيد بأن فوز بايدن قد يدفع الديموقراطيين إلى تصحيح الخطأ الكبير الذي ارتكبه باراك أوباما. وهنا لا بد من الإشارة إلى وجود حساسية لدى الديموقراطيين لإنضاج فرص الحل السياسي داخل سوريا.
قد لا يكون موضوع سوريا، أمراً ملحّاً في الاستراتيجية الأميركية الجديدة. فهذا الملف لا يمكن حلّه من دون حسم وجهة الأمور الاستراتيجية على صعيد المنطقة ككل. ولا يتضح وجود برنامج سياسي واضح لدى الطرفين حول الملف السوري، وتغيب أي ديناميكية لإنضاج أي حل أو اتفاق للأزمة السورية. هناك قناعة دولية بأنه كلما تأخرت الأزمة واستمر عامل الاستنزاف لروسيا، ستكون موسكو أمام استحقاق جدي في تقديم المزيد من التنازلات، لأنها هي المتضررة بشكل مباشر، بينما واشنطن غير متضررة من ذلك، وإسرائيل تحقق كل ما تريده. أعباء الوضع السوري ستبقى ملقاة على كاهل روسيا، التي ستذهب للبحث بالمرحلة المقبلة على تخفيف هذه الأعباء مقابل تقديم تنازلات تؤسس إلى حلّ، يتلاءم مع تطور ملفات المنطقة، على صعيد العلاقات العربية الإسرائيلية، وعلى صعيد الأزمة الإيرانية الأميركية.
أي حل للازمة السورية في ظل الإدارة الأميركية الجديدة، سيكون استلهاماً لمسار الحلول في المنطقة، وهو حلّ يتوازى راكناً إلى معادلة تلازم المسارين، سوريا الداخل وهي نظام جديد، وسوريا الخارج أي الوصول إلى اتفاق مع اسرائيل.