سوريا اليوم ..الجريمة الكاملة

2024.05.12 | 05:14 دمشق

6244444444444444444452
+A
حجم الخط
-A

بدم بارد استطاع أن يزهق أرواح أبنائه الثلاثة ووالدتهم، ثم أقدم على قتل نفسه تاركاً خلفه رسالة تضمنت الأسباب التي دفعته إلى فعل ذلك.

لم تخلُ الكلمات التي تركها الفاعل من اليأس والقنوط والاضطراب الذي بدا على ملامحه، وقد عزا ذلك - وفقاً لما أورده في المقطع المرئي الذي تركه - إلى إنقاذ أبنائه من الفقر الذي يعاني منه.

لم يكن الأب هنا يستعطف أو يطلب المساعدة، لقد كان قد وصل إلى مرحلة من اللامبالاة والزهد إلى درجة جعلته قادراً على الاستغناء عن العالم نهائياً، لكنه فقط ودّ لو يسمعه أحد وربما طمع بأن يعذره العالم لما تملّكه من وحشية جعلته يفرط في أرواح أبنائه.

منذ فترة ليست بعيدة أيضاً قرر شاب آخر في تركيا أيضاً أن ينهي حياته بعد أن فقد عمله، الأمر الذي أزم حالته النفسية، فترك رسالة هو الآخر عبر وسائل التواصل عبر فيها عن مسؤوليته المطلقة تجاه ذلك الفعل.

لم تكن تلك حالات متفردة ولا استثناء، لقد أصبح الأمر اعتيادياً إلى درجة أصبح فيه خبر الانتحار غير ذي أهمية، ووارداً جداً ضمن الظروف التي يعيشها السوريون اليوم في شتى أنحاء العالم.

اللافت في مثل هذه الأخبار أمران واضحان للغاية، أولهما: عدم قدرة السوريين على احتمال الظروف التي فرضت عليهم في العقد الأخير، وترجيحهم الموت على حياة أذاقتهم صنوف الذل والأذى، وثانيهما: هو اختيارهم ترك سائل عبر وسائل التواصل، وهو إن عبر عن شيء فهو يعبر عن عمق الوحدة التي يعيشها السوريون اليوم، وعدم وجود من يستمع إلى شكواهم أو يشاركهم همومهم ما جعل الأزمات النفسية تتضاعف لتسيطر على حيوات السوريين وتسلبهم إياها.

يعاني السوريون اليوم من مشكلات متعددة بعضها نفسي والبعض الآخر اجتماعي واقتصادي، وإذا أخذنا ذلك كله مضافاً إلى آلة الحرب المستمرة منذ أكثر من عشر سنوات التي يُعزى إليها السبب الأكبر من آلام السوريين اليوم حول العالم، سيكون ما نعيشه اليوم نتيجة حتمية.

كشف تقرير صادر في يناير 2024 عن لجنة التحقيق في السوريا التابعة للأمم المتحدة أن سوريا تعيش اليوم أكبر تصاعد للقتال بين أطراف النزاع الموجودين في الأراضي السورية، وهو بحد ذاته لا بد أن يؤثر بشكل أو بآخر على الوضع العام في سوريا التي اتسعت فيها رقعة العنف أيضاً على الصعيد الفردي، بسبب أن "أكثر من 90 في المئة يعانون حالياً من الفقر، ويشهد الاقتصاد انهياراً تاماً في ظل تشديد العقوبات، في حين يؤدي الانتشار المتزايد لحالة انعدام القانون إلى ممارسات ضارة"، ولا ينطبق ذلك على جرائم الحرب التي يمارسها أطراف النزاع فحسب وإنما يشمل السوريين الذين تعرضوا للعنف منذ عقود ليصبح سمة من سمات التعامل في حياتهم اليومية والخاصة والعامة.

نشأنا في دولة أمنية مارست أجهزتها العنف في مجالات الحياة المختلفة جسدياً ونفسياً وبأدوات مختلفة

لقد كشفت الحرب عن وجه مختلف لم يعرفه السوريون عن أنفسهم قبل اليوم، فأزمة الاندماج يضاف إليها تردي الأوضاع الاقتصادية ومشكلات الاغتراب والاضطرار إلى العمل ساعات إضافية من أجل إعالة من بقي من العوائل في الداخل السوري، وما نجم عن ذلك من اضطراب وتناقض في المفاهيم والقيم بين الشرق والغرب سببت أزمة هوية واضحة، وشكلت عوامل أثرت جميعها في شخصيات السوريين وطباعهم.

لقد نشأنا في دولة أمنية مارست أجهزتها العنف في مجالات الحياة المختلفة جسدياً ونفسياً وبأدوات مختلفة، فشكل حلقات متواصلة يدور فيها العنف وينتقل من الحلقات الأقوى ليفرغ في الحلقات الأضعف، وأصبح في بعض الأحيان أسلوب التربية الأنجع والمقصد هنا ليس تربية الآباء للأبناء فحسب، بل أصبح وسيلة لترويض أي شبهة تمرد اجتماعي أو سياسي في المحيط، حتى إن بعض الفئات منحت نفسها الحق في قمع الفئات الأخرى باستخدام العنف، ليصبح العنف أداة مشروعة في فرض السلطة وتثبيتها.

يتسع مفهوم العنف ويتشابك مع ممارسات كثيرة اعتادتها مجتمعاتنا في الأسرة والمدرسة، ويشمل عنف السلطة الذكورية أيضاً ضد النساء في حال الخروج عن الطاعة، وقد شهدت الساحة السورية جرائم عنف متكررة ضد النساء تحت ذريعة الشرف أو التأديب أوما شابه.

أصبح العنف هو العلامة التي تميز المشهد السوري بالعموم في أرجاء العالم.

لا تنحصر أحداث العنف المتكررة في الداخل بسبب ما يسمى "الفلتان الأمني" ذلك أن أسباب العنف متعددة ومختلفة، وهو نتيجة تراكم من الممارسات العنفية التي مارستها حلقات المجتمع بعضها ضد البعض الآخر وفي مقدمتها السلطة السياسية التي كانت الراعي الرسمي له في سوريا والبلاد العربية، بدليل انتشار العنف في الأوساط التي تحكم فيها السلطات قبضتها الأمنية أو في البلاد التي يحكمها القانون على حد سواء.

في الحقيقة إن الموضوع متشابك إلى درجة يصعب فيها التفريق بين السبب والنتيجة أو اختصار ذلك كله في عجالة، لكنهما أي "السبب والنتيجة" هنا مثل كرة صوف متشابكة يصعب فكّ أحد أطرافها من دون فكّ الآخر، لأن ما يؤكده الأمر الواقع أن العنف لا يولد إلا عنفاً.

لقد شهدت الساحة السورية إضافة إلى العنف الذي خلفته الحرب أحداثاً عنفية فردية متفرقة، مارس فيها الأشخاص عنفاً تجاه أنفسهم أو تجاه آخرين مقربين أو غرباء، حتى أصبح العنف هو العلامة التي تميز المشهد السوري بالعموم في أرجاء العالم، وإذا أردنا الوقوف على أسباب الظاهرة فهي كثير ومتعددة وموغلة في القدم، لكنها تراكمت بحيث أصبح من المستحيل إخفاؤها أو تجميلها، فبدأت تتجسد في المجتمع على شكل جرائم مفجعة ومؤلمة.

لا يوجد مبرر للعنف ولا ذريعة، غير أن الجريمة الأكبر هنا هي تلك التي ارتكبها العالم في حقنا بأن تركونا نموت علناً وعلى شاشات الإعلام من دون أن يحرك ذلك فيهم شعرة، وإن كانت الأرقام والإحصاءات تبين أن المجتمع السوري قد وقع في فخ العنف من دون رجعة، فلا بد أن تأخذ بعين الاعتبار أن الضمير العالمي استخدم العنف معنا يومياً، في وقوفه صامتاً متفرجاً أمام موتنا المحتوم الذي أصبح حدثاً يومياً عارضاً لا يستحق الوقوف عنده.