سوريا.. العدمية السياسية وتحديات التغيير

2024.11.04 | 06:49 دمشق

المعارضة
+A
حجم الخط
-A

مع انطلاق الثورة السورية عام 2011 سعت الفئات الشعبية إلى التحرُّر من الاستبداد السياسي الذي مارسه نظام الحكم الدكتاتوري لعقود طويلة، ولكن، بدلاً من تحقيق التحرر المنشود، أصبحت سوريا ساحة للصراعات الدولية والإقليمية، ما أدى إلى وقوعها تحت وصاية متعددة الأطراف، هذا التحول أوجد حالة من العدمية السياسية، إذ يبدو أن القرارات السياسية لم تعد بيد السوريين أنفسهم، بل تخضع لمصالح قوى إقليمية ودولية متضاربة، سواء أكانت هذه القوى تدعم النظام أم المعارضة، كما أن تفرُّق المعارضة (السياسية والعسكرية) وظهور التباينات الأيديولوجية فيما بينها قاد إلى المنافسة، وبالتالي ضعفت قوتها التي كان يجب توجيهها إلى السلطة الاستبدادية، بمعنى أنها لم تمارس أيَّ فاعلية سياسية أو عسكرية، ما أدى لعودة الهويات الجزئية، والبحث عن ذاتها المكبوتة لعقود طويلة من قبل الاستبداد، فقد شكلت هذه العودة حالة من العطالة السياسية؛ لأنَّ المحرك الدافع لها لم يكن يصب في مصلحة صياغة هوية وطنية جامعة، وتتجلَّى العدمية السياسية في سوريا من خلال عدة مؤشرات، ونذكر أهمها:

أولاً- تراجع المشاركة السياسية والشعبية:

إنَّ انخفاض المشاركة الشعبية – بصورتها الحقيقة- يبدو واضحاً في أي جهد يسعى إلى التغيير السياسي، فقد بات كثير من السوريين يشعرون بأن صوتهم أو مطالبهم لن تؤثر في القرار السياسي، وهذا الشعور تزايد نتيجة للتهميش القسري والتجاهل المتعمَّد للمطالب الشعبية من قبل النظام، بالإضافة إلى سياسة القمع الطويلة، ونظام التعيين المباشر للمسؤولين في المناصب السياسية، الأمر الذي قاد إلى غياب الثقة بين الشعب والسلطة، ولعل هذا السبب الأبرز لقيام الثورة والمطالبة الشعبية بالحرية وإلغاء المادة الثامنة (8) من الدستور، والتي تنص على أن "حزب البعث" هو الحزب القائد للدولة والمجتمع،  وذلك قاد إلى حالة يأس من إمكانية حدوث تغيير حقيقي، يرافقه خوف من القمع والعنف، وهو ما دفع بأعداد كبيرة من السوريين الثائرين إلى الهجرة أو النزوح، وهي دلالة على عدمية الفعل السياسي، والرغبة في الابتعاد عن هذا الواقع المؤلم.

ثانياً- غياب استقلالية القرار السياسي:

إن تدخل قوى إقليمية ودولية، مثل روسيا والولايات المتحدة وإيران وميليشيات طائفية، أدَّى إلى تجميد القرار السياسي السوري، إذ باتت السياسات الداخلية والخارجية للبلاد مرتبطة بمصالح هذه القوى، بدلاً من الاعتماد على تطلعات الشعب، هذا التدخل جعل السوريين يشعرون بالعجز أمام إمكانية تحقيق مستقبل سياسي مستقل، لقد حوَّل وجود القوى الخارجية في سوريا مناطق مختلفة منها إلى مناطق نفوذ سلطات الأمر الواقع، وأدَّى إلى فقدان السلطة المركزية لسيطرتها على كامل البلاد، بمعنى آخر غياب السيادة الوطنية للدولة التي عرفها الفيلسوف الفرنسي جان بودان (Jean Bodin) في كتابه "الجمهورية"، بأنها السلطة العليا المطلقة داخل الدولة، والتي تتمثل في القدرة على سن القوانين من دون الخضوع لأي سلطة أعلى، ووفقاً له، فإن سيادة الدولة هي شرط أساسي لضمان النظام السياسي والاستقرار داخل المجتمع، وهذا ما لا يمكن مشاهدته في حالة سوريا التي تغيب عنها أية فاعلية سياسية، والأمر لا يقتصر على مناطق هيمنة النظام؛ إنما ينطبق على بقية مناطق سلطات الأمر الواقع، ما زاد شعور السوريين بأن مستقبلهم يحدده آخرون، لا إرادة الشعب.

ثالثاً- تفكك المعارضة وانقسامها:

المعارضة السورية تعاني من انقسامات حادة، وتبعيات لدول خارجية، ما جعلها معارضات وليست معارضة واحدة؛ نتيجة لتضارب الأجندات الخارجية التي تسعى إلى تحقيق مصالحها الجيوسياسية، فتباينت الأيديولوجيات بين فصائل المعارضة، وازدادت النزاعات الداخلية بينهم، إذ حاولت بعض الفصائل بسط نفوذها واستبعاد الفصائل الأخرى، ما أدى إلى مزيد من الانقسامات داخل المعارضة، وجعل من الصعب التوافق على رؤية مشتركة للمستقبل السياسي لسوريا، هذا التفكك جعل السوريين يفقدون الثقة في المعارضة كبديل فعلي للنظام، كما قاد إلى تراجع الدعم الشعبي للمعارضة، وأدى الانقسام والتفكك إلى إضعاف موقف المعارضة في المفاوضات الدولية، إذ لم تتمكن من تقديم جبهة موحدة تتحدث بصوت واحد، ما جعل المجتمع الدولي يواجه صعوبة في تحديد جهة تمثل المعارضة بشكل شرعي في المفاوضات، الأمر الذي دفع مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما جوشوا لانديس (Joshua Landis)، لأن يصف المعارضة السورية بقوله: "الأسد دفع المعارضة نحو مأزق، لقد نفذوا كلَّ ما تمناه.. بأن يصبحوا أكثر دموية منه.. وأن يصبحوا حفنة من قاطعي الرؤوس والمتطرفين الإسلاميين"، هذا الانقسام قاد إلى حالة من التيه والعطالة السياسية التي تركت أثرها النفسي والاجتماعي على سلوك الشعب وهدد ثورته ومستقبلها.

ختاماً، العدمية السياسية في سوريا نتاج معقد لعوامل عديدة، أبرزها الاستبداد الداخلي، وتدخلات القوى الأجنبية التي حدَّت من قدرة السوريين على تقرير مصيرهم السياسي. وقد أسهمت هذه العوامل مجتمعة في تراجع الأمل في تحقيق التغيير، وظهور حالة من اليأس والاستسلام لدى المجتمع، ما يشير إلى تحديات كبرى أمام أي جهود لإعادة بناء المجتمع السوري، والآن، وفي ظل المتغيرات الدولية والإقليمية وما تشهده المنطقة من حرب تدميرية يقودها الكيان الصهيوني في غزة وفي لبنان نشهد حالة من الصمت السياسي وعطالة في الدبلوماسية السورية، فهل يمثل غياب التفاعل الرسمي من النظام السوري والمعارضة تجاه حرب الإبادة هذه انعكاساً لقصور في الفعل السياسي والأخلاقي تجاه القضايا الإنسانية؟ أم أن هذه المواقف صدى لتحالفات إقليمية وقيود خارجية تحدد أجندتهم السياسية على حساب قضايا الأمة؟