تتعدد جوانب المعاناة التي تُلقي بظلالها على سكان الشمال السوري وبالأخص سكان المخيمات بسبب الفقر والحاجة والأوضاع المعيشية المتردية، إذ تعاني النساء بشكل مضاعف من أمور قد تُعد غير مرئية أو لا يتم التنبّه إليها وبالتالي جعلت البيئة أصعب بالنسبة إليهنّ، في ظل غياب شبه تام لمقومات الرعاية.
وعلى مدار السنوات أجمعت التقارير الصادرة من شمال سوريا، على أن الواقع الصحي في النازحين وبيئته باتت غير صحية وغير صالحة للحياة لفترات طويلة، الشيء الذي انعكس آثاره بشكل أوضح خلال السنوات الماضية على الأطفال والنساء، من الاستخدام المتكرر للمرافق الصحية المشتركة، وقلة المياه المستخدمة للتنظيف والشرب، وعدم وجود غذاء صحي متوازن.
وعملياً أدّت هذه البيئة السيئة إلى تفاقم معاناة النساء في شمال غربي سوريا واجتمعت في ظاهرة "سوء التغذية"، لا سيما خلال فترة الحمل والإرضاع بسبب الأوضاع المعيشية المتردية، ما حرم نسبة كثيرة منهن من إرضاع أطفالهن طبيعياً، في وقت يعجزن عن تأمين الحليب الصناعي البديل بسبب الظروف المادية الصعبة وسعره المرتفع، وسط تفشي الفقر والغلاء وشح فرص العمل للرجال والنساء تحديداً.
شاهدة على المعاناة
زينب المحاميد (35 عاماً) نازحة من ريف حلب الجنوبي إلى مخيم الكمونة بريف حلب الغربي، تقول لـ "تلفزيون سوريا"، إنها تضطر يومياً إلى إطعام طفلها البالغ عمره 7 أشهر، "مادة النشاء بعد طبخها مع السكر أو الأرز المطحون بالإضافة إلى الشاي والخبز"، إذ تعاني من انقطاع الحليب الطبيعي عنها، منذ قرابة 4 شهور إثر سوءٍ في التغذية وعدم قدرتها على تأمين غذاء كافٍ لها.
تؤكد زينب أن عائلتها لا تملك المقوِّمات التي تحمي أطفالها البالغ عددهم 4 من سوء التغذية بسبب صعوبة الأوضاع المادية، إذ نعجز عن شراء الحليب الصناعي المكمّل، وفق قولها، وتشير إلى أن أحد الأطباء أكّد لها أن طفلها يعاني من فقر دم وضعف عام وأنه بحاجة إلى حليب صناعي، وهو الشيء الذي نعجز عن تأمينه.
يعمل "سليم" زوج زينب في إحدى معامل الكرتون في مدينة الأتارب غربي حلب، ويتقاضى أسبوعياً 500 ليرة تركية (23 دولاراً أميركياً)، والتي بالكاد نعيش منها، وفقاً لـ "المحاميد".
وتكتمل معاناة زينب أيضاً بخلو المخيم الذي تسكن فيه من النقاط الطبية، لذا ختمت حديثها معنا بمطالبة المنظمات الطبية بتقديم الرعاية الصحية والأدوية لها ولطفلها، ليتمكنوا من البقاء على قيد الحياة.
وفي مخيم الكرامة بريف إدلب، تعاني مروى إبراهيم (32 عاماً) أيضاً من سوء التغذية، وتشكو إصابة ابنها البالغ من العمر أربع سنوات بالتقزم، وتقول: "ظهرت على طفلي أعراض مرض سوء التغذية وهو في عمر السنة، عندما قطعت الرضاعة الطبيعية عنه بسبب وضعي الصحي الصعب، وعندما ذهبت إلى طبيب الأطفال في مركز الرعاية الصحية في المخيم، أكد أنه يعاني سوء تغذية حاداً منذ وقت طويل، وهو ما تسبب له في ضعف نمو جسمه، وتأخره في اكتساب المهارات الحركية مثل المشي.
أمّا عن ابنتها الكبرى "ريماس" البالغة من العمر ست سنوات، فهي ليست أفضل حالاً من أخيها والتي تعاني من وهن ودوار وبشكل دائم، إذ تؤكد مروى أن زوجها يعمل بشكل متقطع، وأنه غير قادر على تأمين الغذاء المتكامل للأسرة لاسيما أنه يعمل يومين بالأسبوع تقريباً بسبب قلة فرص العمل.
طالبت السيدة مروى خلال حديثها مع تلفزيون سوريا السلطات المعنية والمنظمات الإنسانية بتأمين فيتامينات وعلب حليب الأطفال، وتوزيعها مجاناً على الحوامل والمرضعات اللواتي ضاقت بهن سبل الحياة، بالإضافة إلى زيادة السلة الغذائية التي توزع بالمخيمات على مكملات غذائية.
ولا يختلف الأمر كثيراً عن جارتها "عبير الفيصل" التي تقول لتلفزيون سوريا: "أعيش مع عائلتي المؤلفة من زوجي الذي لا يعمل وثلاثة أطفال صغار، على المساعدة الشهرية التي تحتوي على "أرز وبرغل وزيت نباتي وسكر"، والتي لا تكفينا لنصف الشهر.
عبير الحامل في الشهر السابع، لا تستطيع زيارة طبيبة نسائية بسبب وضعها المادي الصعب، مسترسلةً بقولها: "أحتاج إلى زيارة العيادة النسائية بشكل مستمر بعدما بدأت أعراض سوء التغذية تظهر من نقص الفيتامينات والكالسيوم، عبر آلام في القدمين والحوض، لكنني لا أملك المال الكافي لدفع أجور الطبيبة وثمن الأدوية".
ووفق تقديرات الأمم المتحدة فإن قرابة 33 في المئة من سكان سوريا يعانون من نقص الأمن الغذائي، إذ وثقت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) زيادة نسب سوء التغذية بين النساء الحوامل والمرضعات في شمال غربي سوريا بأكثر من ضعفين، مع معاناة ثلثهن من فقر الدم الذي يهدد صحة ونمو أطفالهن الجسدية والعقلية، عام 2019.
النازحات أكثر عرضة لـ "سوء التغذية"
خلال إعداد هذا التقرير التقينا مع طبيب الأطفال "حسام يسار" العامل في عددٍ من المشافي في مدينة إدلب، إذ أكّد لـ تلفزيون سوريا على أن نسبة النساء المصابات بسوء التغذية هي أعلى عند النازحين، لافتاً أنه لا يملك دراسة دقيقة بالأمر، ولكن بحسب ما أشاهد أثناء عملي تزداد النسبة عند النازحين، بحسب قوله.
وأوضح يسار إلى أن هناك زيادة واضحة في عدد حالات سوء التغذية عند النساء وخاصة المرضعات شمالي سوريا، لافتاً أن هذه الظاهرة باتت تنعكس سلباً على الأطفال، لعدم كفاية الإرضاع الوالدي لهم والحاجة الملحّة للحليب الصناعي، ما يُسفر عن ضعف مناعة الطفل وزيادة الأمراض الهضمية والمعوية، بسبب الاستخدام الخاطئ للحليب.
وأشار إلى أن مرض سوء التغذية له درجات وهي "الحاد الشديد المُرمز بـ SAM والحاد المتوسط المُرمز بـMAM"، وأبرز أسبابه في مجتمعنا شمال سوريا، هو ضعف التغذية عند الأمهات وقلة الوارد الغذائي الأساسي الذي تحتاجه جسم المرضعة، وأمّا بالنسبة لحالات الوفاة، بيّن أن هنالك حالات لكنها قليلة إذ يتم التعامل مع معظم هذه الإصابات في مراكز مختصّة في علاج سوء التغذية.
كلام الطبيب "يسار" أكّده أيضاً منسق برنامج التغذية والأطفال في مؤسسة شام الإنسانية الطبيب "عمار الصوفي"، الذي أشار إلى كثرة الإصابات بـ مرض سوء التغذية في شمال سوريا، لافتاً إلى أن الإصابات متفرقة وأكثرها انتشاراً في منطقتي "محمبل وأريحا" بريف إدلب الجنوبي، بسبب ضعف الخدمات المقدمة لهم من قبل المنظمات الإنسانية وإهمالها من قبل العديد من المنظمات الطبية، بالإضافة إلى حالة الفقر الشديد الذي يعيشه الأهالي.
وأوضح في حديثه لـ تلفزيون سوريا أن دورهم في مؤسسة شام يقتصر على معالجة السيدات الرضع وخاصّة التي تعاني من سوء التغذية المتوسط الحدة، والوصول إلى حالة إرضاع ابنها بشكل طبيعي دون الاعتماد على الحليب الصناعي.
أسباب سوء التغذية شمالي سوريا
من جهتها، أكدت الطبيبة النسائية والعامل في منظمة بهار الإنسانية "غزالة أقرع" أن أبرز مسببات مرض "سوء التغذية" هو أخطاء التغذية الناتجة عن نقص الموارد المادية، ما يعني عدم وجود قدرة لدى العوائل في شمال سوريا على تغطية المصاريف التي تتعلق بالغذاء السليم للسيدة والطفل، إذ تضطر معظم السيدات لتناول أنواع أطعمة غير مغذية، وتعويض أطفالهن بأطعمة بسيطة وبأعمار مبكرة كحليب الأبقار الدسم والنشاء.
ورأت الطبيبة "أقرع" أن مؤخراً باتت تتراجع نسب الإصابات بسوء التغذية، بسبب حملات التوعية الكثيرة التي أطلقتها المنظمات في المنطقة، ما ساعدن بشكل كبير في الحد من الإصابة بهذا المرض.
وبحكم عملها في منظمة "بهار" الطبية، تُشير الطبيبة إلى أن فرق الصحة المجتمعية وفرق التغذية العاملة في المنظمة تستخدم في عملها جهاز اختبار "MUAC" والذي من شأنه كشف حالات سوء التغذية عند النساء والأطفال، وعلى إثرها يتم علاج الحالات، عبر تقديم مادة "زبدة الفستق" وبعض المكملات الغذائية، التي من شأنها معالجة قضية نقص الوارد البروتيني أو سوء الامتصاص عند النساء.
ولا تُغني الأدوية أو الزبدة التي تكلمت عنها الطبيبة عن الغذاء الطبيعي؛ إذ نوّهت خلال حديثها مع تلفزيون سوريا على أن العلاج الصحيح والشافي لهذا المرض بشكل نهائي، يجب أن يترافق بغذاء مكمل وطبيعي، لتحسين بنية الجسم بشكل كامل.
وتشير آخر البيانات الصادرة عن "اليونيسيف" على أن مستويات سوء التغذية آخذة في الارتفاع شمالي سوريا، إذ قدرت آخر البيانات أن أكثر من 609.900 طفل دون سن الخامسة يعانون من التقزم في سوريا، الناجم عن نقص التغذية المزمن الذي يُسبب أضراراً بدنية وعقلية للأطفال، في حين تؤكد البيانات على أن 48 في المئة من الأطفال أيضاً الذين تتراوح أعمارهم بين 6-59 شهراً يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم، خلال عامي 2021 إلى 2022.
ما دور الدفاع المدني؟
منسق برنامج الصحة في مؤسسة الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) الدكتور "مجد الفحام" يقول لـ "تلفزيون سوريا"، إنه وخلال الفترة الماضية كنا نعمل بالحد الأدنى من خلال القابلات العاملات في مراكز صحة النساء والأسرة التابعة للدفاع المدني السوري، عبر إجراء قياس مواك للمراجعات الحوامل والمرضعات لمسح سوء التغذية".
وأوضح أنه اعتباراً من تشرين الأول القادم، سيتم تدريب متطوعتين في كل مركز لصحة النساء والأسرة في الدفاع المدني السوري البالغ عددهم 39 مركزاً في شمال غربي سوريا، من شأن هذا التدريب أن يُمكن المتدربات على القيام بمهام عاملات الصحة المجتمعية.
ولفت إلى أن إحدى الرسائل التي تقدمها عاملات الصحة المجتمعية هي رسائل توعية تتعلق بالتغذية والإرضاع الطبيعي، حيث سيكون هناك قياس MUAC، بالإضافة إلى مسح سوء تغذية أوسع للمجتمعات التي تخدمها المراكز سواء للأطفال أو الحوامل أو المرضعات، إذ سيتم تحويل المرضى للشركاء الذين لديهم أطباء أو فنيو تغذية، والقادرون على إعطاء مواد تغذية، ملخصاً كلامه بالقول: "سيكون دورنا خلال الفترة القادمة في "التوعية – المسح – الكشف – الإحالة".