"أين العرب أين المسلمين؟". إنها الصرخة التي طالما تكررت في العقود الأخيرة. سمعناها من الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين والسوريين واليمنيين، وغيرهم من الشعوب العربية والإسلامية. الصرخة السؤال التي كانت تنطلق مختلطة بالدموع من حناجر متعبة ومجروحة، في لحظات الشدَّة والقتل والهلع من الموت والجوع والحصار. ذات الصرخة ما زلنا نسمعها اليوم في غزّة، وفي سوريا رغم أن الحناجر قد بُحَّت.
يستحضر كثيرون حكايات وأحياناً أساطير تاريخية. منها استغاثة المرأة التي قيل إنها وجهتها للمعتصم، ويجيبون أنه لم يعد هناك من معتصم اليوم. أما أنا فيقيني أنه لم يكن هناك معتصمٌ قبلاً، ولن يكون هناك أي معتصم الآن، ليس لقلّة نخوة أو شهامة، ولكن بفعل اختلاط أو التباس الأفكار والأحكام التي نحملها، والتي تؤدي في كثير من الأحيان لأن يبدو الموقف الأخلاقي برمّته مشوشاً بلا أي انسجام لدينا.
رأينا مظاهرات داعمة لغزّة، في بعض الدول العربية، لكن رأيناها أكثر في بلدان الديمقراطيات الإسلامية وغير الإسلامية. كان اللافت، أكثر من كل مرّة سبقت، المظاهرات التي نظمها يهود، أو شاركوا بها بفاعلية، لدعم المدنيين في غزة، وبمواجهة الجحيم الذي صبّته حكومة المتطرفين في تل أبيب على المدنيين في القطاع. إذاً، إن كان هناك من معتصم ما، فقد كان أكثر حضوراً في الدول غير العربية!
بينما يتحرك العالمُ سياسةً وإعلاماً بلغة يفهمها الآخرون، فإننا بدوْنا اليوم وسابقاً، خصوصاً لجهة الخطاب، ككائنات آيلة للانقراض، نعيش داخل فقاعة خاصة أقل ما يقال عنها أنها تبدو منصة لمسرح عبثي ومضحك. نكتب بلغة لا يقرأها غيرنا، نداعب بها غرائز ومُتخيَّلات مَن حولنا. راجين أن نخبرهم القصة الحقيقية التي يعرفونها منذ عقود. نزيّف في كثير من الحقائق لتسويق حقنا المشروع، نحوِّل جرائم دنيئة لبطولات. أو على الأقل نسوق ونسوغ جرائم بحجة أنها لن تقدم ولن تؤخر في عالمٍ غير عادل، وهو منحاز أصلاً ضدنا.
كان للتحقيق والتقرير المطوَّل، الذي أنجزته منظمة "هيومان رايتس ووتش" عن ضحايا معركة الساحل أبلغ الأثر، مع غيره من المؤثرات طبعاً، في تحول العالم عن رؤية مئات آلاف الضحايا السوريين الذين قتلوا على يد الأسد
في الرابع من آب/أغسطس عام 2013 قامت مجموعات مسلحة (معارضة للأسد) بما عرف يومها بمعركة تحرير الساحل. خلال تلك المعركة المخزية ارتكبت بعض التنظيمات المتشددة، ما يمكن وصفه بأخس السلوك تجاه النساء والأطفال والمسنين والمدنيين العُزّل المنتمين إلى الطائفة العلوية. فإضافة لقتل جنود الأسد في بعض القرى وهو الطبيعي في المعارك، تمَّ قتل عشرات المدنيين نصفهم من الأطفال والنساء والمسنين، وتم اختطاف نساء وأطفال. ستتم مبادلتهم بعد فترة طويلة، مع نساء وأطفال معتقلين لدى نظام الأسد. كانت تنِزّ من صفقة التبادل برمتها وعلى جانبيها رائحة النذالة والخسّة، لطرفين ارتكبا ما يمكن وصفه بجرائم ضد الإنسانية.
كان للتحقيق والتقرير المطوَّل، الذي أنجزته منظمة "هيومان رايتس ووتش" عن ضحايا معركة الساحل أبلغ الأثر، مع غيره من المؤثرات طبعاً، في تحول العالم عن رؤية مئات آلاف الضحايا السوريين الذين قتلوا على يد الأسد. وكان أكثر ما نحتاجه يومها وقفة مع الذات، نعترف بها أننا أعداء أنفسنا أكثر مما هو العالم عدونا. نعترف أننا بكثير مما نفعل ونقول إنما نطلق الرصاص على أرجلنا وأحياناً على رؤوسنا. ولكن هل العالم عادل تجاه قضايانا؟ بالتأكيد لا. لم يكن كذلك ولن يكون، ما دمنا عالقين في الفقاعة نفسها.
حين نصفق لأفعال جرمية بيِّنة فهذا يعني أننا نشجع نهجاً سيجعلنا مجرمين في عيون العالم. أما عندما نقف ونقول عن الجريمة بأنها جريمة، ولو صدرت عن أقرب الحلفاء، عندها سنكون قد بدأنا نتلمّس الطريق الصحيح. إسرائيل تدفع بجرائم خصومها عالمياً عبر الإعلام، وتغطي على جرائمها أو تدافع عنها باعتبارها مبررة، وتقدم نفسها على أنها ضحية تدافع عن نفسها. وهي تنجح إعلامياً إلى حد ما، على الأقل ليبرر ساسة العالم مواقفهم المؤيدة لها، قبل أن يكتشف الرأي العام زيف ما تطرحه. بينما نقوم نحن بتأييد مطلق لكل الأفعال ضد المدنيين الذي يجمع العالم على أنها جرائم ضد الإنسانية، حين تكون صادرة عمن نعتبره طرف منّا.
القضية الفلسطينية برمتها قضية عادلة دون أدنى شك، وأن نكون ضد الاحتلال وجرائمه وانتهاكاته فهو أمر طبيعي، ولا يتناقض أو يتنافى مع إدانة الارتكابات حتى لو صدرت ممن يدّعون أنهم مقاومون، لو أردنا ألا نقع في الانحياز الأعمى. الأمر ليس ماء وزيتاً لا يجتمعان. كل العالم يعتبر اختطاف حماس للطفلة أبيغيل إيدان ذات الأربع سنوات واحتجازها في غزّة، بعد قتل أبويها جريمة، وهو محق. بينما نحن نربط ألسنتنا، مع أن قول الحق هيّن إن لم نعتبر أنه مطلوب من ذوي الضمائر الإنسانية التي تمتلك الحدَّ الأدنى من حسِّ العدالة. لو تابعنا كثيراً من المفكرين اليهود وإداناتهم للجرائم الإسرائيلية، لوجدنا أنه من السهل أن تكون ضد الجريمة مهما كان موقعك الديني أو القومي من مرتكبها.
تبني أي إيديولوجيا (بكل التنويعات) يأكل شيئاً من العقل، ومن المحاكمات المنطقية، لكن أسوأ ما فيه، لو استحكمَ بصاحب الإيديولوجيا، أنه يلتهم، تقريباً على نحوٍ تام، الحسّ الإنساني تجاه المختلفين
"سنصير شعباً, إن أَردنا, حين نعلم أننا لسنا ملائكة, وأنّ الشرّ ليس من اختصاص الآخرين". في ذاك المقطع الشعريّ الفذّ الذي افتتح به قصيدته "لو أردنا" واقتبستُ منه عنوان مادتي، يلخص محمود درويش مشكلتنا التي أخوض فيها اليوم. نعلم جميعاً أن تبني أي إيديولوجيا (بكل التنويعات) يأكل شيئاً من العقل، ومن المحاكمات المنطقية، لكن أسوأ ما فيه، لو استحكمَ بصاحب الإيديولوجيا، أنه يلتهم، تقريباً على نحوٍ تام، الحسّ الإنساني تجاه المختلفين.
يتباهى العسكريون والرسميون الإسرائيليون على شاشات الفضائيات العالمية، بأن الجيش الإسرائيلي ينبّه المدنيين قبل قصف بيوتهم وتدميرها بمن وما فيها! ويتفاخرون بذلك على أنه مأثرة أخلاقية يتفرّدون بها. سنلاحظ أنه نتج عن كرم الأخلاق هذا مقتل أكثر من أربعة آلاف طفل خلال شهر ونصف. ومن جانبنا، يتباهى كثيرون منّا في الأيام القليلة الماضية، بمعاملة حماس الطيبة والإنسانية للمختطفين (الأسرى) الإسرائيليين من النساء والأطفال والعجائز المدنيين، ويقدّمون الأمر على أنه مأثرة أخلاقية أيضاً! وكأن الطبيعي أن يتم تعذيب الأسرى، بل والأدهى وكأن اختطاف النساء والأطفال والعجائز أمر مقبول!
قد لا يعجب ما أتحدث به هنا كثيرين، وأنا لا أعير أي اهتمام لهذا، وقد لا يتطابق مع أساسيات حنكة العمل السياسي والإعلامي بمواجهة العدو التاريخي. لكن يقيني الأكيد أنه يتطابق مع الضمير والأخلاق الإنسانية، كما ينبغي أن تكون عليه، فيما لو كان للضمير والأخلاق كلمة. فأن تكون مقتنعاً بأنك على حق في قضيتك، هذا لا يبيح العمى عن رؤية الجريمة أيّاً كان الفاعل. وبالعودة إلى المعتصم، فإنه لن يأتي في أي يوم، ما دامت بوصلتنا تائهة وعمياء.