نهايات عام 1990، سمحت السلطات السورية لعائلاتنا بزيارتنا للمرة الأولى في سجن صيدنايا. كان قد مضى على اعتقالنا أكثر من ثلاث سنوات. مرّت تلك السنوات قاسية علينا وعلى الأهل، فنحن لا نعرف عنهم أي شيء، وهم بالكاد يعرف بعضهم أننا قد نكون في سجن صيدنايا، لكن دون أي معلومات أخرى. منع الزيارات والإخفاء القسري، كانت سياسة ممنهجة لدى نظام الأسد، تهدف ليس فقط إلى زيادة معاناة المعتقلين وعائلاتهم، وإنما تبتغي أكثر، زيادة الغموض حول ملف السجون السورية التي ابتلعت الآلاف، ولم يُعرف مصيرهم حتى اليوم.
كانت أحوال المعتقلين الإسلاميين ممن اعتقلوا بداية الثمانينيات هي الأقسى بالنسبة لنا، وكنا نتشارك سجن صيدنايا. بعد أن فُتحت زياراتنا، نشطت حالات تواصل غير مألوفة بين عائلاتنا وعائلات الإسلاميين. كنا نرسل العناوين والأسماء، ليقوم الأهل بزيارة وطمأنة عائلات أولئك المغيبين منذ عقد عن أحوال أبنائهم، والأهم بين الأخبار، أنهم أحياء في سجن صيدنايا. بدأت حالة مكثفة من إيصال الرسائل السريّة بالاتجاهين، وكذلك الأموال والصور، وتلبية حاجات البعض من الأدوية التي تلزمهم لبعض الأمراض المزمنة.
باستثناء حالات قليلة، لم يفكر أحد منّا بالخلاف الفكري والعقائدي. كانوا بالنسبة لنا حالة إنسانية تعاني العسف وتحتاج مدَّ يد العون، واستمر الأمر سنوات بعدها. لم يكن نظام الأسد يفرّق بين انتماءات السوريين المعارضين، فكل معارض مصيره السجن، ولكنه عمل من جهة أخرى بدأبٍ لتفتيت كامل المجتمع السوري على أسس غير وطنية.
عليَّ أن أذكر هنا، أن ما أعاد إليَّ صور تلك الفترة، كانت مشاهدتي للقاءٍ مع السجينة السابقة المهندسة سحر البني على منصة "يوتيوب"، ضمن سلسلة بعنوان "قصة سجين" التي يقدمها السجين السابق أيضاً مروان محمد، (ستسامحونني في هذه المادة لشدة تكراري لمفردة السجن بكل تنويعاتها اللغوية)، بل وعادت إليَّ كل تفاصيل الأسماء والصور والرسائل والمبالغ التي كانت تأتي عبر زيارات الأصدقاء ومنها زيارتي، لتصل إلى المعتقلين الممنوعين من أي زيارات. ولكن ما شأن البني بهذا الأمر؟ شأنها أنها كانت تتحدث عن السوريين كما هم، قبل أن يفتك بهم وبانتمائهم الوطني نظام الأسد.
السيدة البني التي اعتقلت ست مرات، كانت أطولها مدة أربع سنوات قضتها في فرع فلسطين وسجن النساء في دوما، تحدثت عن اعتقالها الأول، وكيفية استقبال الأهالي في حماة، شهر شباط عام 1980، لها ولإخوتها المعتقلين أيضاً بعد الإفراج عنهم. "حملوا أخي يوسف من أبواب حماة إلى بيتنا على الأكتاف". هنا عليَّ أن أوضح، لما للتوضيح من دلالة، أن عائلتها "البني" هي عائلة حموية مسيحية جميع أفرادها يساريون، ومعظمهم ينتمون إلى رابطة العمل الشيوعي.
"أبدوا فرحتهم بطريقة أذهلتنا. رأوا فينا حالة تحدي للنظام، وكانوا توّاقين ولديهم جوع حقيقي للتمسك بما يمكن أن يمثّل لهم طريقة للخلاص منه" تقول البني.
جميعكم يعلم كم دأب الإعلام، وخصوصاً الإعلام اللبناني الموالي للأسد، على وصف مدينة حماة بأنها "قندهار سوريا". في تلك المدينة سيتوافد حمويون متدينون على مدى أيام، بزيّهم التقليدي من الأحياء المسلمة، ليهنئوا طالبة جامعية وإخوتها الثلاثة، مسيحيين وشيوعيين، بالخروج من معتقلات الأسد! حدث ذلك قبل أن يفتك الأسد بالمجتمع السوري ويذرّره نهائياً. "أبدوا فرحتهم بطريقة أذهلتنا. رأوا فينا حالة تحدي للنظام، وكانوا توّاقين ولديهم جوع حقيقي للتمسك بما يمكن أن يمثّل لهم طريقة للخلاص منه" تقول البني.
في مكان آخر، لا يخلو أيضاً من الدلالة، تتحدث سحر عن تجربة التخفي في بيت بمدينة حلب لسيدة من "ترمانين" مطلع الثمانينيات، وكيف تعاملت معها خصوصاً في شهر رمضان. أجبرتها السيدة على عدم مراعاة صيامهم كما كانت ترغب. كانت تصنع لها القهوة صباحاً وتقدم لها طعام الغداء في موعده، بينما تنتظر مع أبنائها إلى وقت الإفطار، وكانت السيدة تعرف أن سحر مسيحية وشيوعية ومطلوبة لفروع الأمن.
حين اضطرت البني للمغادرة إلى بيت مستأجر آخر، راحت السيدة تستجوبها عما ينقص البيت الجديد وتجمع النواقص مما لديها في بيتها. المفاجأة كانت عندما سألتها هل يوجد في البيت تلفزيون؟ فأجابت بالنفي. عندها توجهت السيدة إلى أبنائها بأمر لا يقبل النقاش "فُكّوه". هنا اختنقت سحر بدموعها وتوقفت لبرهة كي تلتقط أنفاسها قبل أن تتابع القصة. "بعد سنوات عندما غادرت السجن الأخير زرت تلك السيدة في بيتها وأهديتها تلفزيون حديث ملون، وكانت تستغرب فعلتي، معتبرة أن لا شيء يستحق. وكأن ما قدمَته لي قبل سنوات كان من بدهيات السلوك الطبيعي".
لم تكن سحر تريد البكاء. لكنها فعلتها مرتين خلال اللقاء. المرة الثانية، عندما تحدثت عن رفيقة السجن سميرة الخليل المختطفة قبل عشر سنوات من مدينة دوما حين كانت تخضع لسيطرة "جيش الإسلام"، والمُغيّبة حتى اليوم. بعد التحدث عن سميرة وحضورها المميز في السجن، بالكاد بدأت بالتعبير عن الشوق لها، لتعود وتنهار في بكاء آخر. "كنت قررت ألا أبكي فأنا أريد تذكُّر سميرة بفرح، لأنها هي ذاتها كتلة من الفرح" عقّبت سحر بعد بكائها.
ما استوقفني أكثر من غيره في المقابلة، هو كيف قرأت سحر سوريا والسوريين، وكيف ترى مدينتها حماة، قبل أن ننتهي إلى ما نحن فيه اليوم. كيف عرَّفت مدينتها وأهلها بحب شديد. كيف تحدثت عن حالات التضامن بين سوريين من منابت مختلفة، وأحياناً متناقضة. في كل دول العالم توجد بعض التناقضات في المجتمعات، طبقية وقومية ودينية، ومن المألوف أن تعمل الحكومات على تخفيف تلك التناقضات لبناء مجتمعات أكثر تماسكاً. سوريا لم تكن استثناءً في ذلك، لكن نظام الأسد هو من كان الاستثناء. فبدل العمل على رأب الصدوع في المجتمع، لعب عليها وفعَّلها أكثر ليستفيد من التناقضات فانتهت سوريا إلى ما هي عليه الآن، ساعده في ذلك متطرفون من كل الطوائف.
تحدثت سحر في اللقاء عرضاً وبطريقة تلقائية، وكأن ما تقوله من طبائع الحياة، أنها تزوجت رفيقها في الحزب وهو من عائلة مسلمة (الكاتب والروائي مصطفى خليفة، صاحب رواية القوقعة). حين كانت تروي تفاصيل حياة التخفي والاعتقال تذكّرت بكثير من الحب، موقف عائلتهُ المتضامن بل والمحتضن لها ولابنتها خلال سجنها. وكان أن تحدثت عن زميل مهندس (بعثيّ) من مدينة الطبقة، قابلها صدفةً في الشارع خلال فترة تخفّيها في حلب، وكان يعرف أنها مطلوبة للاعتقال. أصرَّ الرجل على إعطائها مفتاح منزل عائلته، مع التأكيد أنها يمكن أن تستخدم البيت كلما ضاقت بها سبل التخفّي.
أتابع باهتمام تلك السلسلة من المقابلات مع السجناء، وفي كل مرّة يخطر ببالي أنه على صاحب كل قصة اعتقال توثيقها. لكن أكثر ما ألح عليَّ هذا الأمر كان وأنا استمع إلى لقاء سحر البني، وخصوصاً أن التوثيق يروي ليس فقط السيرة الذاتية، وإنما يعرِّج على حكايات أناس آخرين، بل ويمرّ على التاريخ الاجتماعي السوري في تلك الفترات. على الدوام أتمنى أن يتنطّح أحدٌ ما، من كل تجربة سجنيّة، ليقوم بما يقوم به مروان مع أصدقائه ورفاق سجنه. عندها سيكون لدينا موسوعة متكاملة عن سجون الأسد، وما حدث فيها من جرائم وغرائب.
رغم كوارث السجن السوري، قدّمت تلك الحالات مثالاً بيِّناً عن إمكانية الاجتماع الوطني بين المختلفين. لكن، بطبيعته الإجرامية، كان للأسد رأي آخر.
تدافعت الغُصص مع كلمات سحر وهي تتحدث عن السجينة الفلسطينية الطالبة الجامعية جميلة البطش، التي قضت في منفردات وسجون الأسد 16 عاماً، وحين أفرج عنها رُحِّلت من السجن إلى الحدود الأردنية مباشرة. شخصياً، سعيد وفخور بتوثيق تلك القصص، وأرى المشروع بالغ الأهمية رغم تواضعه ماليّاً وفنيّاً، خصوصاً أن الجمهور لا يعرف عن أولئك المناضلين الذين سجنوا في فترات التعتيم تلك، حين لم يعلم بهم وبظروفهم وحكاياتهم، سوى عائلاتهم وبعض الأوساط الضيّقة.
بالعودة إلى سجن صيدنايا، هناك نُسجت علاقات بين أناس لم يكن يخطر بالبال قيامها. عائلة مسيحية أو علويّة تزور أحياء مسلمة محافظة، لتوصل رسالة من ابن غاب قبل سنوات طويلة، وتعود برسائل وصور من الأهل لابنهم، ستصله في الزيارة التالية. رغم كوارث السجن السوري، قدّمت تلك الحالات مثالاً بيِّناً عن إمكانية الاجتماع الوطني بين المختلفين. لكن، بطبيعته الإجرامية، كان للأسد رأي آخر.