سؤال مَن هو العدو في ميزان الأخلاق والسياسة؟

2024.10.24 | 07:00 دمشق

آخر تحديث: 24.10.2024 | 07:00 دمشق

5344444
+A
حجم الخط
-A

كثيرًا ما ينتقدني بعض الكرد على خلفيّة دعمي للقضيّة الفلسطينيّة العادلة وحقّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على ترابه الوطني، سواءً في مقالاتي أو في رواياتي.

والحجَّة التي يقيمونها عليَّ تتلخَّص في نقطتين، الأولى: إسرائيل ليست عدو الشعب الكردي وقضيته، ولا تحتلُّ جزءًا من كردستان، ولا تقمع وتضطهد الكرد، فلماذا نعاديها؟ والنقطة الثانية: وقوف أغلب الفصائل الفلسطينيّة، الإسلاميّة منها واليساريّة مع الأنظمة التي تقمع وتضطهد الكرد في المنطقة، ومناهضتها حقِّ الشعب الكردي في تقرير مصيره وإقامة دولته؟ لماذا يعارض الفلسطيني حقّ الكرد في أن يكون لهم دولة، ومطلوب من الكرد أن يكونوا مع حقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم؟

وغالبًا ما يكون مُخلَّص ردِّي على هذه الانتقادات على النحو التالي:

1 ــ وقوفي مع الحقّ الفلسطيني ودعم عدالة قضيّته، غير مشروط بأن أعتبرَ إسرائيل عدوًّا لي ولشعبي. وإذا كانت إسرائيل ليست العدو بالنسبة لي، فهي ليست الصديق أيضًا. هذا التعامل السلبي مع مواقفي الداعمة للفلسطينيين، تكاد أن تكون متطابقة مع مواقف اليهود الذين إذا ما رأوا انتقادًا لإسرائيل وسياساتها وجرائمها، فورًا اعتبروه عداءً للساميّة وللدين اليهودي واليهود بشكل عام ومطلق! عليه، هناك تعمُّد في الخلط بين الأمور، وعدم فصلها بعضها عن بعض!

وحتّى لو منحت الفلسطينيين حقّهم، وتوقّفت عن إبادتهم وقمعهم وتدمير مدنهم وقراهم...، ودخلت في سلام حقيقي مع الشعب الفلسطيني، وقتذاك أيضًا، ليس واجبًا عليَّ التعامل مع إسرائيل كصديق. ذلك أنّها قامت بما ينبغي عليها القيام به أخلاقيًّا وسياسيًّا وقانونيًّا واحترمت التزاماتها والتفاهمات التي أبرمتها مع الحركة الفلسطينيّة. وأنا ككردي وسوري، لست معنيًّا بتلك التفاهمات ولا مجبرًا على التعامل مع إسرائيل تعاملَ الفلسطيني الرافض لاتفاقيّة أوسلو أو الموافق عليها. موقفي من هذه الدولة هو ذاته موقفي من أيّة دولة دينيّة أو قوميّة، لها الحقّ في العيش، ولي الحقّ في انتقادها أو تجاهلها. وممارسة حقّي في التعبير عن رأيي ليس فعلاً عدائيًّا، إذا ما بقي في إطار القانون وعدم استهداف الأشخاص على خلفيّة دينيّة أو قوميّة أو جنسيّة...الخ.

2 ــ الأرجنتين أو مصر أو السويد أو سنغافورة أيضًا، إذا احتلّت أرضًا غير أراضيها، وقمعت شعبًا، وسعت إلى تدميره جغرافيًّا وديموغرافيًّا، هل عليَّ تجاهل ذلك الشعب المظلوم وأرضه المحتلّة، لأنّ البلدان المذكورة، لا تحتل أراضي كرديّة ولا تقمع الكرد؟! وعليه؛ مناصرة الشعوب المظلومة ومناهضة القوى والدول الظالمة، ليس مشروطًا - بالنسبة لي - بأن تكون تلك القوى الظالمة، ظالمة لي ولوطني وشعبي بشكل مباشر. وأعني أنّ الجانب الأخلاقي يدفعني ويلزمني باعتبار أيّ ظلمٍ يقعُ على أيّ شخص في العالم، ظلمًا واقعًا عليَّ أيضًا.

3 ــ نصرة المظلوميّة والقضايا العادلة للأفراد والشعوب، ليست خاضعة للمقايضة، وفق: "ناصرني لكي أناصرك". وعليه، عدم مناصرة الفلسطيني للكردي في حقّه وقضيّته العادلة، لا تسقط عن الفلسطيني مظلوميّته وعدالة قضيّته، والعكس صحيح. وعندما تتخذ حركة فلسطينيّة سياسيّة معيّنة موقفًا عدائيًّا من الكرد وقضيّتهم وحقّهم في تقرير مصيرهم، ورغم خيبة الأمل والأسف والحزن الذي يحدثه ذلك الموقف المخزي، إلاّ أنّه على المستوى الأخلاقي، لا يمكن التعامل معه بالمثل، ودعم كلّ نظام أو جهة تقمع وتضطهد الفلسطينيين. من ينزلق إلى سلوك كهذا هم الساسة وليس المثقفين الذين بوصلتهم القيم والأخلاق الإنسانيّة وليست أخلاق السياسة وبازاراتها!

حتّى لو منحت الفلسطينيين حقّهم، وتوقّفت عن إبادتهم وقمعهم وتدمير مدنهم وقراهم...، ودخلت في سلام حقيقي مع الشعب الفلسطيني، وقتذاك أيضًا، ليس واجبًا عليَّ التعامل مع إسرائيل كصديق.

عندما يدخل أولئك الكُرد الذين ينتقدونني في مأزق المحاججة، فورًا يتبادر إلى أذهانهم تلك المقولة الممجوجة والشائنة والبراغماتيّة "عدوّ عدوّي صديقي"، وبالتالي، يحقُّ للكردي أن ينظر إلى إسرائيل بعين الصداقة، ليس لشيء، فقط لأنّها تعادي دول المنطقة التي تعادي الكرد بسبب مصالحها، وليس لسواد أعين الكرد! ويسهو هؤلاء "العقلاء" عن أنّ هذا "الصديق" الافتراضي ـ إسرائيل، يمكن أن يتصالح مع إيران أو تركيا أو سوريا أو العراق، وتدخل في خندق أنظمة هذه الدول أو واحدة منها، في معاداتها للكرد، طبقًا للمقولة  "لا عداوة دائمة في السياسة، بل هناك مصالح دائمة"! وقتئذ، أيّة منفعة ترتجى من الصداقة التي يفترضها هؤلاء الكرد من الكيان الإسرائيلي؟!

أحيانًا تنزلق حجج هؤلاء إلى آخر ورقة في الدفاع عن قناعتهم الهشّة في تبرير صداقة إسرائيل المفترضة لديهم على أنّها حقيقة دامغة لا يمكن تفنيدها، وتستند تلك الورقة على وجود عشرات الآلاف من الكرد اليهود داخل إسرائيل! هذه الحجّة على هشاشتها وتهافتها، تسهو عن وجود عشرات الآلاف من الكرد الفلسطينيين في القدس، الخليل، صفد وغزّة... ومناطق أخرى من فلسطين.

بالتالي، إسرائيل تقمع كرد فلسطين أيضًا، بوصفهم فلسطينيين وليسوا كُردًا. أبعد من ذلك، إذا اعتمدنا وجود الآلاف من الكرد اليهود في إسرائيل سندًا منطقيًّا وأخلاقيًّا وسياسيًّا كي نعتبر هذه الدولة صديقة للكرد، أولى بهؤلاء الكرد البسطاء اعتبار الأنظمة في سوريا، والعراق وتركيا أصدقاء للشعب الكردي، بسبب وجود ملايين الكرد في هذه البلدان الأربع، موالية لأنظمتها، مع وجود ملايين معارضة لها أيضًا. إذًا، هذه الحجّة الركيكة، تسقط وترتدّ على أصحابها ومروّجيها.

بالعودة إلى السند أو الشرط الوطني للبت في وجود العداوة بين الكرد وإسرائيل، يمكن للكرد في سوريا النظر إلى إسرائيل كعدو، باعتبارها تحتل أراضي سوريّة (الجولان)، وهي جزء أصيل من الكيان السوري المستقلّ والعضو في الأمم المتّحدة. لكن هذا السند الشرط غير متوفّر لدى كرد العراق أو تركيا أو إيران، لأن الدولة العبريّة لا تحتل شبرًا من أراضي هذه البلدان الثلاث. وبالتالي، من الغريب أن نفرض على مواطني هذه البلدان من الكُرد عداوة إسرائيل، أو أن نفرض عليهم صداقتها وتبنّي عداواتها المزمنة مع الفلسطينيين والعرب والمسلمين!

جزء كبير من ذلك التضامن المصري يتأتّى من الجانبين الديني الإسلامي والقومي العروبي، على أن إسرائيل تحتل أراضي عربية، من فلسطين وسوريا.

لندع الكرد جانبًا ونتّجه قليلًا صوب العرب ونطرح بعض الأسئلة:

هل واجبٌ وشرط لازمٌ على مواطني السعوديّة، وقطر، والكويت، والبحرين، وعمان، والإمارات، والجزائر، والمغرب، وتونس، وليبيا...، اعتبار إسرائيل عدوّا لهم، حتّى يكتمل دينهم أو تكتمل وطنيّتهم وإنسانيّتهم؟ هل تحتل إسرائيل شبرًا واحد من أراضي هذه الدول؟ هل تضطهد مواطنيها وتقمعهم وتقصف مدنهم وقراهم وتحاربهم في أرزاقهم، كما تفعل مع الفلسطينيين؟ والجواب: لا. والحال هذه، على أيّة أرضيّة قانونيّة، أو سياسيّة، أو جغرافيّة، أو اقتصاديّة، أو عسكريّة...، تستند تلك العداوة التي نراها تتدفّق في إعلام تلك الدول، بصرف النظر عن مستويات الخطاب الإعلامي المعادي لإسرائيل، مرتفعة أو منخفضة؟ هل معاداة إسرائيل باتت مادة خصبة للمزايدة السياسيّة والوطنيّة والأخلاقيّة بين الأنظمة العربيّة والنخب التابعة أو المعارضة لها؟ من يعادي إسرائيل أكثر، هو وطني أكثر، وعقلاني وأخلاقي وثقافي أكثر؟

نفس الأمر، ينسحب على مصر والمصريين: لماذا يعتبرون إسرائيل عدوّةً لهم، رغم إبرام دولتهم اتفاق سلام مع الدولة العبريّة منذ 1978؟ هل تحتل إسرائيل شبرًا من الأراضي المصريّة؟ هل تقمع وتضطهد مصريين؟ هل مصر في حالة حرب مع إسرائيل؟ والجواب المختصر على تلك الأسئلة: لا. إذًا، ما هو مبرر بقاء تلك العداوة؟ غالب الاعتقاد أنّ سرُّ اعتبار المصريين أو أغلبهم إسرائيل عدوًّا لهم، كامن في جزء منه في تراكم الجرائم والأحقاد التي خلّفتها إسرائيل منذ نشأتها سنة 1948 مرورًا بهزيمة 1967 وصولاً لحرب أكتوبر سنة 1973.

ومن جهة أخرى، التضامن الأخلاقي والإنساني للمصريين مع الشعب الفلسطيني، حتّى بعد إبرام اتفاقيّة السلام مع إسرائيل سنة 1978، وانسحاب الأخيرة من كامل الأراضي المصريّة، لم يبدد إرث العداوة أو يطويه أو يتجاهله، وجزء كبير من ذلك التضامن المصري يتأتّى من الجانبين الديني الإسلامي والقومي العروبي، على أن إسرائيل تحتل أراضي عربية، من فلسطين وسوريا.

لكن، قد يتساءل أحدهم: إيران وتركيا أيضًا تحتلان أرضي عربيّة، لماذا لا يتعامل المصري معهما نفس تعامله مع إسرائيل؟! هنا، يسقط الفارق القومي، ويبقى الجامع الديني الذي يحلل لدولة مسلمةٍ احتلالَ أراضي دولة مسلمة أخرى، وعربيّة أيضًا.

بالعودة إلى الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ماذا عن المواطنين العرب في منطقة الخليج أو شمال إفريقيا؟ فباستثناء المبرر الأخلاقي، هل هناك سند سياسي أو عسكري أو مادي ملموس يخوّلهم اعتبار إسرائيل عدوًّا لهم؟!

إسرائيل ليست عدوا لي (بالمعنى المباشر)، لكنها لا تساعدني على محبّتها، عبر التخلّي عن العنصريّة والاستعلاء الديني (القومي) وترك ذهنية الحرب والدمار.

مقصدي من الأسطر السالفة القول: في كثير من الأحيان، يتفوّق الجانب الأخلاقي والعاطفي في استمرار العداء لإسرائيل على الجانب السياسي والاقتصادي والتصادم المباشر. ربّما يتعلّق الأمر في جانب منه بمناهضة الظلم. لكن هذا الجانب، مع الأسف، يتعطّل ويصاب بالشلل أحيانًا، إذا ما تعلّق بالظلم اللاحق بالأمازيغ أو النوبا أو الكرد أو السريان أو الأرمن...، في حال كان مرتكبه نظاما عربيا، أو إسلاميا على افتراض أنّ طهران وأنقرة على عداوة أزليّة مع الكيان العبري، وتدعمان "المقاومة" المعادية لإسرائيل. هنا، يسقط المبرر الأخلاقي على مذبح المصالح والمنافع السياسيّة، المباشرة وغير المباشرة، ذات الطابع القومي. إذًا والحال هذه، المعيار الأخلاقي في دعم المظلوم ضد الظالم في العالم العربي يسقط في الامتحان الديني والقومي والسياسي، وهذا ما جعل بعض الفلسطينيين يجدون في صدام حسين صديقًا ورمزًا وقائدًا لهم، لمجرَّد أنّه يناهض إسرائيل، رغمّ كل المذابح التي اقترفها صدّام في حقّ العراقيين! كذلك يجد الفلسطينيون إيران صديقة وداعمة لمقاومتهم، بالرغم من كلّ الجرائم التي اقترفها النظام الإيراني بحق العراقيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين، ناهيكم عن جرائمه المقترفة بحقّ الإيرانيين أنفسهم. حال هؤلاء كحال حركات اليسار التي كانت تعمي أبصارها عن فظائع ستالين أو جرائم الأنظمة الشيوعيّة في أوروبا الشرقيّة وجنوب آسيا، فقط لأنّ هذه الأنظمة مناهضة ومعادية للإمبرياليّة. هذا الوهم ـ المرض ما يزالُ معشِّشًا في حركات اليسار العربي والعالمي التي تنظر إلى فلاديمير بوتين وكأنّه فلاديمير لينين، وتلتمس الأعذار للحرب الروسيّة على أوكرانيا، وتشرعن التورّط الروسي في الحرب السوريّة!

حاصل القول: إسرائيل ليست عدوا لي (بالمعنى المباشر)، لكنها لا تساعدني على محبّتها، عبر التخلّي عن العنصريّة والاستعلاء الديني (القومي) وترك ذهنية الحرب والدمار، ومنح الشعب الفلسطيني حقوقه العادلة، بل تحرجُ مَن يحبُّها ويدعمها، عبر اعتمار الحرب والسلاح خيارًا أبديًّا في حماية نفسها. يعني؛ إذا كنت تطالبني بتصديق سرديّتك والتعاطف مع مظلوميّتك ودعم حقّك في الوجود، تخلّى عن السلاح الذي تهددني به قيامًا وقعودًا.