كذبوا فقالوا: إنّ البشرية تتقدم إلى الأمام، وإن الحروب صارت وراءنا، الدورة ما تزال على حالها؛ ربيع يرتاح البشر فيه من الحرب، صيف حار، شتاء عنصري، خريف يتساقط فيه الضعفاء، ولا تسلم سوى الأوراق الإبرية الخضراء.
يتخوف بعض الألمان من هتلر فرنسي بجوارهم، ربما ينتاب الخوف كثير منهم، وقد ذاقوا مرارة الحرب ووبال العنصرية، أوروبا كانت أكثر بقاع الأرض احتراقًا بنيران الحروب. كثير من الفرنسيين خائفون من مرشح الرئاسة "الملون" الذي سبق اليمينية البيضاء ماري لوبان بخطابها المتطرف وبزّها. أصدرت الأسبوعية الفرنسية "شالانج" مقالًا بعنوان "ترامب الفرنسي"، ترامب لم يرتكب مذابح وإبادات جماعية، لكنه كان مولعًا بالأسوار، حتى إنه بنى سورًا عاليًا وطويلًا على حدود المكسيك، وحبس الفردوس الأميركي وقاية له من أهل الجحيم، فسلبها إحدى أهم خصائصها، وهي استقبال الوافدين والموهوبين الذين جعلوا أميركا سيدة العالم في القوة والمنعة.
سيبني أريك زمور سورًا من حواجز القوانين حول فرنسا، ويخرج من شينغن، وقد رُفعت ضده قضايا، بتهمة التمييز العنصري، وغُرّم غرامات مالية
أريك زمور ليس فرنسيًا، وليس مسيحيًا أيضًا، فهو يهودي جزائري، وهو يختلف عن الفرنسيين بخصيصتين هما الدين واللون، وهذان السببان جعلا خطابه فرانكيًا أكثر من خطاب الفرنجة، وقد رفع شعارات مفزعة مثل الاسترداد العظيم، وتغيير مجرى التاريخ، وطرد الجزائريين، ومنع الأسماء العربية، والطعام العربي، والحلال الإسلامي، وسيحرم الحجاب في فرنسا، والجزائريون هم الذين دافعوا عن فرنسا ضد الغزو الألماني في الحرب العالمية الثانية.
تظهر صور وثائقية كيف كان الفرنسيون يتسترون بالجند الأفارقة ويتدرعون بهم في الحرب العالمية الثانية. سيبني أريك زمور سورًا من حواجز القوانين حول فرنسا، ويخرج من شينغن، وقد رُفعت ضده قضايا، بتهمة التمييز العنصري، وغُرّم غرامات مالية. تقوم دعوته الانتخابية على الصهر الكامل، والصهر غير الاندماج. الصهر يعني قتل الثقافة. ستالين وهتلر نسختان عنصريتان معروفتان، الأولى اشتراكية، والثانية رأسمالية، لسيادة عنصر على عناصر، وسيكون زمور نسخة ثالثة إن فاز.
كتب موقع "تاغسشبيغل" الألماني (30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021) أن زمور يعتبر نفسه منقذ فرنسا، ويسعى لمنع (الاستبدال العظيم) للسكان من قبل المهاجرين المسلمين الغزاة. لذلك كان مقطع الفيديو الخاص (بترشيحه) مليئًا برسائل النبذ والاستئثار والاستعلاء والتحريض: "نساء محجبات ومسلمون يصلّون، والعنف في الشوارع. مصحوبًا بأصوات السمفونية السابعة لبيتهوفن. تسجيلات من حقبة الستينيات من القرن الماضي مقتطعة في صورة مشوهة". وعد بحظر الهجرة وإلغاء حقّ لمّ شمل أسر المهاجرين، وطرد غير النظاميين منهم. يتضمن برنامجه الانتخابي أيضًا إلغاء المساعدات الاجتماعية والدعم. ويمكن استذكار صراع مخلوق التراب آدم عليه السلام ومخلوق النار إبليس في الجنة، فقد ذعر الشيطان من هذا المخلوق الجديد، الذي أمر الله الملائكة بالسجود له، لا يأكل مثل طعامه ولا يلبس مثل لباسه، فأبى واستكبر، فهو من عنصر أعلى وأكرم، ويرى نفسه أقدم خلقًا منه، وأن آدم وافد و"لاجئ"، طارئ، وليس مواطنًا، وقد نجح في إهباطه من الجنة بعد أن طُرد منها أيضًا.
تذكّر قصة الطرد من الجنان، بطرد صدام حسين العراقيين الخونة وأصحاب البيوت الفارهة من العراق بتهمة الخيانة وموالاة الفرس، وطرد بشار الأسد السوريين من سوريا، أو حبسهم عشرات السنين قبل الطرد بتهم مشابهة، وقبلهم طرد الفلسطينيين من أرضهم، فنزحوا في الأرض، وكانت النار هي أداة الطرد.
حيثما نظرت في التاريخ، وجدت قصة مشابهة لقصة آدم وإبليس؛ الهند وباكستان، الإسبان والمسلمين، الأميركان الأوائل والأميركان الوافدين. لابد من ذريعة ما للطرد. قد تكون الذريعة لون البشرة أو العقيدة أو الزيّ أو الطعام. في التفاسير التي تروي قصة قتل قابيل لهابيل روايةٌ تقول بالصراع على الطعام الحيواني والطعام النباتي، وأخرى بالصراع على النساء، لابد من ذريعة، إن لم تكن الهوية، فإحدى مظاهرها وخصائصها.
كان الترابيون يرقصون أكثر من الناريين في الأعراس الديمقراطية، فيؤدون أدوار الفرح، ملكيون أكثر من الملك، جمهوريون أكثر من الجمهور
يحاول بعض الترابيين خلقًا، الارتقاء إلى النار تكوينًا، وهم "المتمجدون" بتعبير الكواكبي، لفحتهم النار، فتحوّل طين خلقهم إلى صلصال حارق ومحترق يصلح لشيّ اللحم. يمكن أن نتذكر من طرائف التمجد ذلك المشهد الذي اختلطت فيه الملهاة بالدموع الكاذبة؛ كان أجلُّ أعضاء مجلس الشعب السوري وأكبرهم سنًا، بعباءته العربية يبكي ويلطم كالنساء، والنساء معروفات بالرقة، بينما كان شقيق الرئيس الراحل جميل الأسد جالسًا بوقار، في أعلى مقعد بمجلس الشعب، في المقعد الخلفي، يشرف عليهم من علٍ، ثابت الجنان، صليب القلب، فلن يطعن أحد في صدق حزنه على أخيه، أما الطينيون، فعليهم البكاء كثيرًا حتى يتحولوا إلى نيرانيين. وكان الترابيون يرقصون أكثر من الناريين في الأعراس الديمقراطية، فيؤدون أدوار الفرح، ملكيون أكثر من الملك، جمهوريون أكثر من الجمهور.
من أقوى براهين الولاء ظلم الأهل والأقربين والغدر بهم. يستعين رجال الشرطة بالمجرمين السابقين مقابل بعض المكافآت في الإيقاع بزملائهم. خطاب العصبيات له جاذبيته، فهو يجمع بسرعة قومًا ويفرق أقوامًا، ويشعر الجمهور الناري بالتعالي والفرادة.
تشعل دولة عربية الحروب في أكثر من بقعة، وترشو النخب الحاكمة في الهند وبريطانيا وأميركا بالمال حتى تدرج جماعتين متعاديتين على قوائم الإرهاب، هما الإخوان المسلمين وجماعة الحوثي!