لم ينقض العام الذي انطفأ فيه نجم في سماء الرواية السورية، صاحب مديح الكراهية خالد خليفة، إلا ولمعت في هذه السماء نجمة هي الروائية ريما بالي، بترشيحها لنيل الجائزة العالمية للرواية العربية (جائزة البوكر العربية) لعام 2024، عن روايتها "خاتم سليمى".
ولأن روح هذا العصر تفرض ذلك، فإن الترشيح سلط الأضواء على ريما بالي، وكأنها بدأت الكتابة قبل الترشح بقليل. لكن ابنة حلب ليست حديثة عهد بأدب الرواية، و"خاتم سليمى" سبقتها "غدي الأزرق" و"ميلاجرو" (المعجزة بالإسبانية) وتلتها "ناي في التخت الغربي".
وأول مرة بدأت فيها ريما بالي بالكتابة كانت قبل 35 عاما، وهي لا تزال في عقدها الثاني من العمر، فهذا الطريق اختارها، واختارته، مبكراً، لتعبر عن ما في نفسها، وعن بيئتها، وأحلامها.
موقع تلفزيون سوريا أجرى الحوار التالي مع الكاتبة التي تطرق أبواب تتويج بالغ الأهمية.
الكاتبة، الروائية، الحلبية، السورية، ريما بالي، كيف تعيش مرحلة الترشح لجائزة كبيرة في الرواية، هل هو حدث مفصلي في حياة الإنسانة وفي إنتاج الكاتبة والروائية، أم أنه حدث إعلامي خارجي يهم الجمهور ويوثر به أكثر مما يؤثر بالإنسانة والروائية ريما بالي؟
الترشح أو نيل جائزة كبيرة ومهمة مثل جائزة البوكر هو بالفعل حدث مفصلي في حياة الكاتب، إذ يطلق اسمه إلى آفاق أكبر من تلك التي يطوف فيها بقية الكتّاب وهم اليوم كثر ويتزايدون سنة بعد سنة. الترشح لجائزة مهمة يعطي الكاتب وعمله نوعا من التميز وجواز مرور إلى لوائح القراء الذين يقفون بحيرة عند اختيار قراءاتهم من بين الكميات الهائلة من الكتب التي تنشر سنويا. لكن التميّز الذي تسبغه الجوائز على الكاتب وأعماله ليس بالضرورة مقياساً لجودة العمل وتفوق الكاتب، إذ تحكم هذا الترشح عوامل عدة يطول تعدادها، عامل الجودة هو أحدها. أما كيف أعيش المرحلة، فأنا سعيدة جداً وممتنة، وأسعى لاكتشاف الأعمال الأخرى المرشحة ضمن القائمة الطويلة، قرأت منها أربعة حتى الآن، وكلها ممتازة ومميزة، ما يشير إلى أن المنافسة لن تكون سهلة أبداً، وأنا فخورة أن تكون روايتي ضمن هذه القائمة الرائعة مهما كانت النتيجة.
تم ترشيحك للجائزة عن روايتك "خاتم سليمى"، كيف يمكن لك أن تقدمي روايتك للقراء؟
خاتم سليمى هي رواية التساؤلات عن علاقة الثنائيات والتناقضات، الحب والجذور، التعلق بالوطن والتقاليد، التوق إلى المستقبل وصناعته، التمرد والانصياع، التمسك والتخلي. هي بحث يدور حول حقيقة كل من تلك العناصر التي تحكم حياتنا، بل هي بحث في مفهوم "الحقيقة" بحد ذاته، وجوده من عدمه، أجزاؤه، نقصانه واكتماله، وختاماً هي دعوة إلى صياغة أسطورتنا الخاصة وتحقيق النبوءات.
ما هو موقع رواية "خاتم سليمى" من بين رواياتك؟ هل هي واسطة العقد (أي الجوهرة الأكبر)؟ أم هي تتويج وخاتمة لما سبقها؟ أم هي نقطة انطلاق نحو قادم جديد؟
"خاتم سليمى"، هي روايتي الثالثة بعد "ميلاجرو" و"غدي الأزرق"، وهي ليست الأخيرة، إذ نشرت بعدها بعام (منذ أشهر قليلة) روايتي الرابعة "ناي في التخت الغربي". قد يجوز أن أسميها حتى الآن واسطة العقد، لكنني لن أقول إنها الجوهرة الأكبر أو حتى الأجمل، فأنا أعتبر أن كل رواية من رواياتي لها نكهتها الخاصة وأجواؤها المختلفة، وهي أيضاً ليست تتمة لما سبقها إذ كتبتها بطريقة وتقنية مختلفة عن "غدي الأزرق" مثلًا، (لن أدرج ميلاجرو في المقارنة باعتبارها كانت الرواية الأولى التي نشرتها بلهفة المبتدئين من دون أن أنقحها وأعيد صياغتها بصبر الكتّاب الناضجين)، أنا أحاول أن أصقل وأطوّر أدواتي مع كل رواية، وبعض القراء المخضرمين استطاعوا تمييز النضج والتطور في استعمالي لتلك الأدوات عملاً بعد آخر، وصولاً إلى "ناي في التخت الغربي" التي أرجو أن تأخذ حقها في الانتشار أيضاً.
رواية "خاتم سليمى" حلبية بامتياز، هل ترين أن ترشيحك للجائزة عن هذه الرواية فيه نوع من الاعتذار من حلب التي تعرضت لأهوال فظيعة، وتركها العالم تقصف بما يعادل قنبلتين نوويتين من الصواريخ والقنابل وبراميل المتفجرات، دون أن يقوم ولا بالحد الأدنى من واجبه الإنساني تجاهها؟
فلنقل إن الترشيح جاء إنصافاً لمعاناة هذه المدينة العظيمة واحتراماً لتاريخها الموغل في القدم والمشبع بكل عناصر الحضارة والثقافة، وهذا ما كان في بالي عندما كتبت العمل، عسى أن يصلح الفن (ولو جزءا يسيرا) مما أفسدته الحرب وصنّاعها. وبالرغم من أن الجرائم التي ارتكبت بحق هذه المدينة أكبر من أن تنسى أو تعالج بعمل أدبي، إلا أنني أحببت أن أقدّم حلب البهيّة في خاتم سليمى بكل فتنتها وجروحها وكبريائها، لأدعو من تفرج عليها وهي تقصف وتدمر وتهان لأن يتفرج على صورتها الأصليّة، كملكة متوّجة قبل أن يتم اغتيالها لتموت سريرياً وتلقى في غرفة العناية المشددة (بدون عناية تذكر في الواقع!).
تنقسم الجوائز والتكريمات إلى نوعين، الأول يعطى عن آخر عمل للكاتب، والثاني يعطى للكتاب عن مجمل أعماله، أي النوعيين يخدم الكاتب أكثر، تكريم العمل، أم تكريم مجمل الأعمال؟
كل تكريم من أي نوع يخدم الكاتب، ويدعو القرّاء لاكتشاف أعماله بالمجمل، حتى لو كان محصوراً بعمل واحد. وأنا أعتقد أن التكريم عن مجمل الأعمال، لا يكون احتفاء بالأعمال بحد ذاتها أو صكاً لجودتها كلها، (فالأعمال تتفاوت في مستواها حتى لدى أعظم الأدباء) بل يكون احتفاءً بالكاتب كإنسان ومبدع وشخصية أثّرت في الفكر والمشهد الثقافي العالمي أو العربي وأثْرته.
قال الشاعر الكبير الراحل محمود درويش في حوار مع جريدة الحياة اللندنية العام 2005، "أغبط الروائيين لأن عالمهم أوسع. والرواية تستطيع أن تستوعب كل أشكال المعرفة والثقافة والمشاكل والهموم والتجارب الحياتية. وتستطيع أن تمتص الشعر وسائر الأجناس الأدبية وتستفيد منها إلى أقصى الحدود..".
هل تتقدم الرواية العربية وتنافس الشعر العربي على عرشه؟ وهل هذا مؤشر إيجابي إلى هذه الدرجة؟
بعد أن يتكلم محمود درويش، ينتهي الكلام، سلاما لروحه المبدعة، أوافق طبعاً، أن تقدُّم فن الرواية هو حاجة ومؤشر على تطور الذائقة، وقد حقق الروائيون والقراء العرب هذه الخطوة النوعية منذ ما يربو على عدة عقود من الزمان. وهي ظاهرة حضارية ألا يكون للأدب عرش واحد تتنافس الفنون عليه ويعتليه صنف على حساب الآخر، بل أن يكون ثمة متسع للجميع لإغناء الساحة الثقافية بعوالم إبداعية مختلفة ومتعددة. لكنني للأسف، أستطيع أن أشخّص تباطؤاً ملحوظاً، وحتى تراجعاً، في تطور الذائقة العامة باتجاه الأدب في العموم بكل أنواعه (شعر ورواية إلخ) وذلك بعد الانتشار الكاسح لوسائل التواصل (والاستعراض!) الاجتماعي الرقمية.
هل يمكن أن يأتي يوم نتحول فيه نحن العرب من أمة الشعر إلى أمة الرواية؟
على المدى المنظور، أجد أن الرواية تشهد نشاطاً على حساب الشعر بشكل عام وعالمي ولا يتوقف الأمر على الأدب العربي، أما الشعر العربي فأجزم أنه مادامت اللغة باقية، فلن ينتهي ولن يتلاشى. أنا أقرأ بشكل يومي تقريباً، شعراً كأروع ما يكون، مكتوب بأقلام شابة، ومنشور بشكل فردي ومتفرق (في مواقع التواصل والاستعراض ذاتها، التي قد يأتي يوم نتحول فيه بسببها من أمة شعر ورواية إلى أمة تيك توك وإنستا! أتمنى أن يكون هذا اليوم بعيداً).
قبل 25 عاماً لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي موجودة، هذه الوسائل التي فرضت علينا لغة البرقيات والاختصار الشديد والعربية المكتوبة بحروف لاتينية والبوستات المحدودة بعدد حروف محدد واختلاط الجد بالهزل وهوس الحصول على النجومية والإعجاب والمتابعات بأي ثمن، وبأسرع وقت وهيمنة شخصيات بسيطة على عقول مئات ملايين البشر. كيف يمكن للرواية أن تواجه هذا الطوفان الهائل؟ تبدو الرواية الآن وكأنها تسير عكس التيار المسيطر!
دعيني أكمل من حيث انتهيت في الإجابة قبل السابقة، أنني للأسف، أستطيع أن أشخّص تباطؤاً ملحوظاً وحتى تراجعاً في تطور الذائقة العامة باتجاه الأدب في العموم بكل أنواعه، وذلك بعد الانتشار الكاسح لوسائل التواصل (والاستعراض!) الاجتماعي الرقمية، كونها سهلة المنال وتقدم محتوى سريعا ومبهرا ومسليا. الخبر الجيد أنه ولو كان جمهور الأدب العربي مخيّباً من حيث الكمية، ألا أنه مبهر من حيث النوعية، ثمة قراء اليوم أنضج فكراً من معظم النقاد والكتّاب إذا جاز لي القول، ولهم تأثير كبير لا يستهان به في الساحة الثقافية والفكرية، هؤلاء بثباتهم وقوة تأثيرهم، يثبتون يومًا بعد آخر أن الرواية لن تنقرض، على الأقل في المدى المنظور من الأعوام المقبلة.
يقال إن الرواية أسهل للترجمة من الشعر. ترجمة الشعر ونقل كل قيمته وجماليته إلى لغة أخرى عمل شبه مستحيل، بعكس الرواية، فهي أطوع للترجمة لأنها متحررة من قيود القافية والوزن والموسيقا الداخلية ومن التكلف والإفراط في الخيال والرمزية. هل توافق ريما بالي على هذه الفكرة؟
وهل سيساعد اتجاه العرب أكثر نحو الرواية إلى زيادة نقل إنتاجهم الأدبي إلى العالم عبر الترجمة؟
هل الرواية أقدر من الشعر على إقامة جسور بيننا وبين العالم؟
أوافق طبعاً على أن ترجمة الرواية تأتي بنتائج ناجحة أكثر من الشعر، باعتبار الشعر يعتمد على فن التلاعب باللغة ومفرداتها وموسيقاها بدرجة كبيرة وهي هيكله العظمي الذي يتضعضع بمجرد ترجمته إلى لغة أخرى، إذ تفقد الفكرة والصورة الشعرية كثيراً من تأثيرها ووضوح مشهديتها بانهيار الجمل الإبداعية التي تنقلها، وتضيع الإيقاعات الموسيقية.
الرواية تعتمد اللغة كركن من أركانها الكثيرة الأخرى التي يمكن أن تسندها إذا انهارت بعد الترجمة، من حبكة وتقنية وفكر وحوار وسرد إبداعي، لذلك فالرواية بالتأكيد أقدر على إقامة جسور بين العالم، وليس الموضوع انتقاصاً من أهمية الشعر ولا استبعاداً لدوره، فهو إن كان خلاقاً وصاعقاً ومبتكراً، يكون أيضاً (كأي نوع من أنواع الفنون والإبداع) جسراً بين الثقافات والحضارات.
غادرت حلب عام 2015 وأنت تعيشين في أوروبا، وارتبطتي بها بأقوى رباط، وتتصلين فيها بالعالم كله، ما هي المواضيع التي تلح عليك من داخلك، لتوصليها للعالم؟ عندما تكون ريما بالي بمواجهة الآخر ماذا تريد أن تقول له؟ هل تسرع في الحديث عن نفسها، أم عن مأساة مدينتها وشعبها، أم عن قضايا تهم العالم كله؟
نعم أحب دائماً، وفي كل فرصة سانحة، ومع أي مجموعة لم تعاصر مأساتنا عن قرب، أوروبية كانت أم من جنسية أخرى، أن أكون شاهدة أمينة لما حدث في وطني، ليس بهدف إثارة الشفقة والتعاطف، وإنما إخلاصاً للحقيقة وخدمة لها، وهذا الوضع يكرس نفسه بشكل مماثل اليوم في مأساة غزة، ويثلج صدري أن ألتقي بآذان صاغية وعقول متفهمة وقلوب حساسة، وهؤلاء أجدهم في كل مكان، ما يعزز ثقتي بالإنسان والإنسانية.
أنا أجنح دائما في رواياتي، إلى ربط مأساتي أو مأساة شعبي ببعض المآسي التي مرت في العالم، وأحياناً كلها، أريد أن أعلن إيماني العميق بأن الإنسان جوهره واحد وإن اختلفت الثقافات والتطلعات ووجهات النظر، أن ألفت الانتباه إلى أن العدو أيضَا واحد. في كندا حيث قضيت فترة الأعياد، أدهشني وأسعدني أيما سعادة أن أجد أشخاصاً بعمر الشباب، كنديين أباً عن جد، لا يمتون للعرب بصلة ولا يتعاطون السياسة، يواظبون على المشاركة في مظاهرات دعم فلسطين، لدوافع إنسانية بحتة، وخدمة للمنطق والحق، أمثال هؤلاء، هم النور الصغير البعيد الذي يشدنا إلى نهاية النفق، الذي أعرف بكل شفافية وعقلانية وأسف أنه طويل جداً.