لا شك أن التدخل الروسي في سوريا الذي جاء مع نهاية أيلول 2015 لم يكن مطلقا -كما ادعت موسكو- أن الهدف منه محاربة الإرهاب المتمثل بالتنظيمات الجهادية كداعش والنصرة وأخواتها، بل إن كل الوقائع الميدانية الإجرامية التي ارتكبتها موسكو خلال السنوات السابقة أكدت للعالم بأجمعه أن تدخلها ما كان إلا للوقوف بكل قوتها وغطرستها إلى جانب النظام الأسدي المجرم وميليشياته الطائفية، والعمل المشترك معهم بكل الطرق الهمجية والإرهابية على وأد الثورة السورية، واستعادة الأراضي والمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والعمل لاحقا على إعادة تعويمه دوليا، ناهيك عن الهدف الأساسي الأهم الذي لا يخفى على أحد وهو حرص موسكو على إيجاد وخلق الظروف المناسبة لإقامة طويلة الأمد على الجغرافيا السورية وذلك من خلال توقيع اتفاقيات عسكرية عديدة مع حكومة الأسد.
ومنذ الأسابيع الأولى لتدخلها السافر فقد عززت روسيا حضورها العسكري المتنوع على الأراضي السورية، ونشرت سفنها ومدمراتها أمام سواحلها وعلى مقربة من قاعدة طرطوس البحرية، ونشرت بالوقت نفسه عشرات الطائرات القاذفة من نوع سوخوي-25، ومقاتلات اعتراضية من نوع سوخوي-24، وقاذفات متوسطة من نوع سوخوي-34، وطائرات سو-30 متعددة المهام والأدوار، بالإضافة إلى عشرات المروحيات من طراز (مي 8 و-24 هايند الهجومية وكاموف 52 (التمساح) إضافة لنشر منظومات إس 400 للدفاع الجوي ومنظومات بانتسيير وغيرها من الأسلحة والعتاد الحديث، مع آلاف الجنود. وذلك في قاعدة حميميم الجوية التي أصبحت بعد توسيعها قاعدة عسكرية روسية خالصة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى بعد توقيع موسكو اتفاقات ثنائية مع نظام الأسد في شهر آب 2015، تقضي بمنح كل الحقوق للقوات العسكرية الروسية باستخدام قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية بشكل دائم ومن دون أي مقابل لأجل غير مسمى، وجعل قاعدة حميميم مركزا لإدارة العمليات ضد فصائل الثوار بالذات بحجة مكافحة الإرهاب، وكما هو معروف تقع القاعدة على بعد أربعة كيلومترات من مدينة جبلة الساحلية، و19 كيلومترا من محافظة اللاذقية.
في وقت سابق وخلال لقائه مع بوتين رأى رأس النظام السوري المجرم بشار الأسد، أن الوجود (الاحتلال) العسكري الروسي في سوريا يشكل ضماناً لإقامة "توازن دولي"، وأعرب عن استعداد دمشق لفتح أبوابها واستقبال قواعد عسكرية روسية جديدة في البلاد وتزويدها بأحدث أنواع الأسلحة والعتاد. وبهذا التصريح غير المسؤول فقد كرس رئيس النظام الوجود الروسي العسكري في سوريا، وباتت موسكو التي لا يهمها في الواقع إذن أو قرار الأسد أن تعمل على اتخاذ إجراءات عسكرية عديدة وتغلغلها في جيش النظام وكسب ولاءات قيادات مخابراتية وأركان فرق وألوية عسكرية ودعم وتشكيل الفيلق الرابع- اقتحام والفيلق الخامس واللواء الثامن في درعا الخاضعين عمليا لأوامرها.
الملاحظ أن موسكو منذ سنوات وبعد أن ارتاحت قواتها في سوريا وانحسار الأعمال القتالية عن أجزاء كبيرة من الجغرافيا السورية، بدأت باستعراضات القوة من خلال العمل بشكل دوري على تخطيط وتنفيذ تدريبات ومناورات هجومية ودفاعية مشتركة مع قوات النظام، حيث شملت هذه الأنشطة المشتركة المناورات الجوية للطيران، وأنظمة الدفاع الجوي، وكيفية التصدي للطائرات المسيرة وإجراءات تنفيذ الحرب الإلكترونية وتدريبات على أنظمة صواريخ أوسا وستريلا 10 وPantsir، بالإضافة إلى صواريخ محمولة على الكتف من طراز Verba، وأعمال الإنزالات الخاصة الليلية منها والنهارية.
الملاحظ أن موسكو منذ سنوات وبعد أن ارتاحت قواتها في سوريا وانحسار الأعمال القتالية عن أجزاء كبيرة من الجغرافيا السورية، بدأت باستعراضات القوة من خلال العمل بشكل دوري على تخطيط وتنفيذ تدريبات ومناورات هجومية ودفاعية مشتركة مع قوات النظام
تأتي هذه المناورات والتدريبات المتعددة بحسب "روسيا اليوم" بهدف اختبار الجاهزية ورفع القدرة القتالية والقيادية للجيشين، وزيادة وتحسين التنسيق القتالي بين الطرفين، وأن يكون الجيشان الروسي والسوري مستعدين بشكل مشترك ودائم لصد "هجمات العدو" وخاصة أن "التهديدات بزعزعة الاستقرار في سوريا لا تزال قائمة"، وهنا لا بد لنا من التساؤل عن أي عدو يقصد هؤلاء بالتصدي له وإسرائيل تسرح وتمرح بشكل شبه يومي في كل الأجواء السورية من دون أي رادع وحسابات أخرى؟
كما هو واضح من الوجود الروسي والإجراءات العسكرية والرسائل التي تريدها موسكو من خلال تعزيز نفوذها وقيامها الدوري بالمناورات العسكرية العديدة المشتركة ومواصلة تدريب جيش النظام وتسليحه ومحاولة رفع سويته القتالية، فإن سوريا باتت حقيقة الأمر بالنسبة لروسيا هي البوابة التي فتحت مشرعة لها لإعادة تموضعها العسكري والجيوسياسي على المستوى الدولي، وإثبات قدراتها واستعراض وجودها كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأميركية التي تفردت في النظام الدولي. بناءً عليه وبحسب موسكو فإن من الواجب عليها العمل بشتى الوسائل لمواجهة التجاهل والاستخفاف الغربي بالدور الروسي وفاعليته على الساحة العالمية، ومن هنا استغلت موسكو توظيف الصراع في سوريا بوصفه ورقة تفاوضية قوية مع الغرب وواشنطن فيما يتعلق بملفات خلافية عديدة بينهم كقضية أوكرانيا أو غيرها من القضايا الخلافية، ولهذا عملت وتعمل جاهدة على تعزيز الوضع الميداني العسكري لها في سوريا بحيث يصبح اتخاذ أية قرارات سياسية أو عسكرية مصيرية في سوريا دون مشاركتها وموافقتها أمرا مستحيلا وغير مقبول.
من جانب آخر، لا شك أن كل التحركات والمناورات العسكرية التي تجريها روسيا والتدريبات العديدة المشتركة مع جيش النظام وصنوف قوات الأسد البرية منها والبحرية والجوية تعكس بشكل واضح زيادة النفوذ الروسي على سوريا وجيشها الذي وكما أراده قادة الكرملين يأتي على حساب النفوذ الإيراني المتنامي خاصة في الفترات الأخيرة التي أظهرت فتورا واضحا وتراجعا في العلاقة بين دمشق وطهران بعد الازدياد الواضح في الاستهدافات الإسرائيلية لمقار قادة الحرس الثوري الإيراني في كل المدن السورية، والاتهامات الموجهة من قيادات إيرانية لدمشق بأنها مخترقة أمنيا وبشكل كبير من قبل إسرائيل.
ختاما، وبحسب موسكو، جاء إعلان الجيش الروسي الأخير عن إجراء مناورات مشتركة مع قوات النظام المجرم في مناطق مختلفة من سوريا، "بهدف حماية الأراضي السورية وتأكيد سلامتها من التهديدات الداخلية والخارجية"، حيث أفاد نائب "المركز الروسي للمصالحة في سوريا"، اللواء "يوري بوبوف"، أن المناورات المشتركة بدأت في الأجواء السورية، وفي عدد من المناطق البرية، وشرقي البحر الأبيض المتوسط، وأن الغرض من المناورات -بحسب بوبوف- هو "التطبيق العملي لكل الإجراءات الهادفة إلى حماية الأراضي السورية"، مضيفاً أن "العمل مستمر في سوريا من أجل التوصل إلى حل غير عسكري للنزاع المستمر منذ 13 عاما، وتقديم المساعدة الشاملة للمواطنين السوريين في استعادة الحياة السلمية". لكننا هنا لا بد من التوضيح بأن المناورات العسكرية المشتركة بأنواعها لدى جميع جيوش العالم تعريفا هي تمارين عسكرية تجريها جحافل وفرق القوات المسلحة كنشاط تدريبي لاختبار الجاهزية العسكرية والقتالية، أو للتدريب على تكتيكات واستراتيجيات وفرضيات ومواقف عسكرية معينة، أو اختبار أنواع أسلحة جديدة، أو جميع هذه النشاطات الميدانية مجتمعة، ولكن الماضي والحاضر يشير ولا يزال إلى أن المناورات الروسية السورية المشتركة بجميع أشكالها وألوانها وعناوينها يبدو أنها وكما هو واضح غير مخصصة للتصدي للاعتداءات الدائمة التي تنفذها إسرائيل منذ عقد من الزمن بضوء أخضر روسي وشلل وصمت نظام مجرم جبان ديدنه منذ عقود أن الرد سيكون في الوقت والمكان المناسبين.