دمرت أوكرانيا الطرّاد الروسي "موسكفا" بعد استهدافه بصاروخي نبتون في البحر الأسود، ما أدى إلى غرق السفينة في مكانها وخروجها عن الخدمة بعد أن كانت الأداة الأهم في العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، أو في عمليات أخرى دخلت فيها موسكو مسبقاً.
كانت هذه الحادثة هي الحدث المفصلي الأهم منذ بدء الغزو الروسي على أوكرانيا، لكون الطرّاد نبتون هو أكبر سفينة عسكرية روسية في البحر الأسود، كذلك عده محللون أنه أكبر خسارة لروسيا منذ الحرب العالمية الثانية.
حاولت وسائل الإعلام الروسية بالطبع تجميل الحادثة فأنكرتها في البداية، ثم أكدت سلامة الطاقم وأوضحت الوزارة التي أوردت تصريحها وكالة "تاس" الرسمية للأنباء أنه :"خلال قطر الطراد موسكفا إلى وجهته، فقدت السفينة توازنها بسبب الأضرار اللاحقة بهيكلها من جراء الحريق الناجم عن انفجار ذخائر. وقد غرقت السفينة وسط البحر الهائج"، قبل أن تنتشر في النهاية صور حية للانفجار الكبير الذي شهدته السفينة الأشهر في الغزو الروسي، ويعلن الجانب الأوكراني استهدافه المباشر للسفينة المذكورة.
الغرق المدوّي الذي سمعت أصداءه جهات العالم الست وأصبح حديث الساعة، كان غرقاً تاريخياً لأنه يعرّي وجه روسيا العسكري الحقيقي ويوضح الحالة الاستعراضية العسكرية التي مارستها على العالم أجمع، وخاصة بعد تدخلها في الحدث السوري بهدف تغيير مساره وتغيير موازين القوى في تلك الفترة وهو ما حدث بالفعل.
يعتمد الجانب الروسي على مبدأ الاقتحام جوّاً في حين تتضح عدم قدرته على الانخراط والتوغل في العمليات البرية إذا لم تقم تغطيتها بأرتال جوية
السفينة الشهيرة اكتسبت سمعتها لاستلامها قيادة الهجوم البحري على أوكرانيا، فكانت تعد هدفاً رئيسياً حيوياً كبد الجانب الروسي خسارة كبيرة، وقد كشف غرقها حقيقة الأسلوب الحربي الذي تستخدمه روسيا في عملياتها العسكرية في الغزو الذي شنته على بلاد مختلفة.
يعتمد الجانب الروسي على مبدأ الاقتحام جوّاً في حين تتضح عدم قدرته على الانخراط والتوغل في العمليات البرية إذا لم تقم تغطيتها بأرتال جوية، ويحاول سد هذه الثغرات باستقدام جنود من سوريا والشيشان لزجهم في الصفوف الأمامية للمعارك البرية، في حين يتفوق عليه الجانب الأوكراني ويدمر قوافله العسكرية لكنهم يعانون من عدم التغطية الجوية، ولو أن العالم استجاب لرغبة الرئيس الأوكراني وطبق حظراً جوياً ربما لاختلفت الأمور إذ سينكشف الوضع الحقيقي لكل من الجيشين بمعارك برية متكافئة.
لقد غير التدخل الروسي في سوريا ووقوفها إلى جانب النظام السوري مسار الحرب بشكل جذري، وكان من شأن هذا التدخل رجاحة كفة النظام وإعادة انتشاره في مناطق كانت قد خرجت عن سيطرته تماماً، إلا أن الانتصارات التي ادعتها روسيا في سوريا هي انتصارات هزيلة لأنها كانت تشن حربا غير متكافئة على الإطلاق مع خصم شبه أعزل لا يمتلك صواريخ ولا مضادات طيران، لكنها أمنت للنظام السوري تغطية جوية فسمحت له بالتغلغل براً بعد أن تكون المدن فرغت من المدافعين عنها ولم يبق بها سوى دمار مستقر.
ساهم التدخل الروسي في اختلاف موازين القوى في المنطقة تماماً، وسمح بإطالة عمر الأسد فمنحه أشد ما كان يحتاجه في إعادة بسط قواته في الأراضي التي خسرها، بتغطية وقصف جويين مهّدا الظرف ليستخدم النظام السوري جحافله في إبادة المدن وتهجير سكانها فيما بعد.
من غير المنصف مقارنة الحالة الأوكرانية مع الحالة السورية في أكثر من نقطة، ذلك أن قد العالم أبدى تعاطفاً كبيراً معهم في حين أنكر مأساة السوريين وصمت عنها واستقبل اللاجئين الأوكرانيين بحفاوة بينما لا تنتهي محاولات إعادة اللاجئين السوريين، غير أن النقطة المشتركة في الحالتين أن العالم الذي ادعى دعمهم تركهم وحيدين في مواجهة الآلة العسكرية الروسية ومنحهم شعارات فضفاضة أكثر ما منحهم دعماً حقيقياً.
لقد كان للطراد "موسكفا" دور أساسي في التدخل الروسي في الثورة السورية، فقد أُرسلت السفينة إلى البحر المتوسط عام 2013 للرد على انتشار قطع عسكرية تابعة للبحرية الأميركية على طول الساحل السوري، كذلك أُرسلت في أيلول عام 2015 إلى غرب المتوسط لتأمين الطائرات الروسية التي تشن غارات على الشعب السوري لمصلحة النظام السوري.
ومع أن الخسائر المادية التي تكبدتها روسيا بخروج هذه السفينة من النظام العسكري والحربي كبيرة وحاسمة للغاية، إلا أن العامل الأهم هو مدى تراجع الحالة المعنوية التي قد تصيب الجانب الروسي جراء تلك الخسارة وارتفاع معنويات الجنود الأوكرانييين في المقابل بعد قدرتهم على دحر القوة البحرية الروسية.
روسيا اكتسبت سمعة أكبر من حجمها بكثير بسبب الانتصارات الزائفة التي حصدتها
حادثة السفينة الأخيرة وتحليلات المختصين بخصوص السلاح الروسي ومدى فاعليته وحداثته تكشف حقيقة قد يختلف عليها أكثر من رأي، وهي أن نوع وصلاحية وفعالية السلاح وطريقة القتال التي تستخدمهم روسيا في حروبها في دول العالم الثالث ـ إذا صح التعبير ـ تتناسب مع إمكانيات هذه الدول الضعيفة التي لا تملك تسليحاً ولا تدريباً عسكرياً ولا يسمح لها بذلك، لكنها لا يمكن أن تتناسب مع دول العالم الغربي الذي يهتم بالتسليح ويمتلك نظم دفاع قوية، ويخصص جزءا كبيرا من ميزانيته للدفاع ويبين أن روسيا اكتسبت سمعة أكبر من حجمها بكثير بسبب الانتصارات الزائفة التي حصدتها.
الأمر الذي يخصنا كسوريين في هذه الحكاية هو أننا استطعنا أن نرى جهاراً نهاراً، دمار أحد أهم الآلات العسكرية التي قتلت وشردت ملايين من المدنيين السوريين العزّل الذين أدينوا بالإرهاب فقط لرفضهم البقاء تحت نظام الاستبداد، أو على الأقل تحقيق ولو جزءا صغيرا من العدالة التي انتظرناها طويلاً وافتقدنا وجودها في عالم غير معني بتحقيق العدالة ويكيل بمكيالين في القضايا الإنسانية وحقوق الإنسان ويمنح الغلبة للقوي وإن كان ظالماً مستبداً.