ما زالت مناطق سيطرة المعارضة شمال غربي سوريا تتأثر بسياسات النظام النقدية وقراراته رغم الانفصال الجغرافي في السيطرة وعدم وجود معابر تربط بين المنطقتين، فأي تغير في سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار وأي تغير في أسعار المواد الرئيسية تفرضه حكومة النظام يرتد مباشرة على مناطق سيطرة المعارضة التي ما زالت تستورد هذه المواد بطريقة أو بأخرى. وهذا ما حدث بعد قرار رفع أسعار الأدوية.
قرار ينقذ معامل الدواء ولا يحل جذر المشكلة
في الـ 17 من حزيران الفائت استجابت وزارة الصحة في حكومة النظام لمطالب مصنعي الأدوية في سوريا برفع أسعار الدواء في البلاد، وذلك بعد تحذيرات وتهديدات من الأخيرين بالتوقف عن الإنتاج في حال عدم تعديل سعر الأدوية.
وأصدرت اللجنة الاقتصادية في حكومة النظام نشرة أسعار جديدة لنحو 12 ألف صنف دوائي بزيادة ما بين 30 و 40%، ووصل أسعار بعض الأدوية إلى 50 ألف ليرة سورية، ما يعادل قيمة راتب موظف في مناطق سيطرة النظام.
وكالعادة جهد مسؤولو النظام لتبرير قراره الذي أنقذ معامل الأدوية من الإغلاق لكنه لم يحل جذر المشكلة المتمثل بالسياسات النقدية التي تسبب تدهور سعر صرف الليرة وكذلك حالة الفساد المتفاقمة.
وقال عبيدة قطيع معاون وزير الصحة لشؤون الصيدلة بحكومة النظام لوسائل إعلام موالية إن "تعديل الأسعار كان الحل الوحيد لتجنب انقطاع الدواء المحلي المتأثر بالحصار". من جهتها قالت وفاء كيشي نقيب صيادلة سوريا بحكومة النظام إن "التسعيرة الجديدة للدواء مناسبة للجميع.. معامل الأدوية لا تبحث عن الربح المادي بقدر سعيها للاستمرار بتوفير الدواء الوطني في الأسواق المحلية، وعدم فتح المجال للأدوية المهربة التي تنتشر في السوق السوداء".
ولفتت كيشي إلى أن معامل الأدوية تحتاج لشهر كامل حتى تستطيع إعادة تأمين الأدوية المفقودة من السوق وزعمت أن سبب الارتفاع متعلق بسعر الصرف وباستيراد المواد الأولية الداخلة بصناعة الأدوية.
وعلّل الصناعي وعضو مجلس إدارة غرفة الصناعة في حلب زياد أوبري قرار رفع أسعار الأدوية بأنه أخف ضرراً من البديل الأجنبي المستورد أو المباع في السوق السوداء، لكنه أشار إلى أن نسبة تمويل "مصرف سوريا المركزي" للمنتج الدوائي بشكله النهائي لا تتجاوز 15% من قيمته الحقيقية.
في المقابل استمرت معامل الأدوية بالمطالبة بسعر الأدوية بنسبة 100% تماشيا مع ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية، حتى لا تستمر بالخسارة.
ارتدادات قرار رفع أسعار الأدوية على الشمال السوري
الشمال السوري ورغم إغلاق المعابر التجارية مع النظام وحصوله على الأدوية من معامل خاصة موجودة فيه وعن طريق استيراد الأدوية من تركيا، إلا أنه ما يزال يعتمد على الأدوية السورية التي تصل عبر معابر التهريب والمعابر مع قوات سوريا الديمقراطية "قسد" بنسبة تزيد على 60% بحسب ما أكده تجار أدوية وصيادلة لموقع تلفزيون سوريا.
ارتفاع الأسعار عصف بالمدنيين في مختلف المناطق السورية ومنها إدلب التي يسكنها ملايين المهجرين قسراً، والتي يعيش كثير من سكانها بدخل يومي للأسرة لا يتجاوز الـ 20 ليرة تركية، فضلاً عن وجود عشرات آلاف الأسر بلا دخل وخاصة في المخيمات.
خسارة الشمال السوري لمعظم معامل الأدوية فيه والتي كانت تتركز في ريفي حلب الشمالي والغربي خلال الحملة العسكرية الأخيرة مطلع 2020، أدت لحرمان المنطقة من الأدوية وانقطاع كثير من الأصناف الدوائية فضلاً عن ارتفاع أسعار عموم الأدوية بشكل كبير.
وفي هذا الوضع المعيشي والإنساني للسوريين الآخذ في الانحدار، كانت الصيدليات الخيرية خياراً لا ثاني له للكثير من الأهالي في إدلب.
متى بدأ عمل الصيدلية الخيرية؟
انطلق العمل في صيدلية آية الخيرية مطلع عام 2013 عند قدوم وفد عربي إلى الشمال السوري وتقديمهم المساعدات وكان حينها ضمن الوفد طبيبة مصرية اسمها آية، ولذلك أطلق على الصيدلية اسمها تكريماً لجهودها، بحسب مدير الصيدلية أحمد المصطفى.
وقال المصطفى لموقع تلفزيون سوريا: "كان عمل الصيدلية يقتصر على مكان واحد وعند وصولي لإدارة المكتب الطبي بمنظمة هيئة الإغاثة الإنسانية التركية IHH بعام 2017 قررت توسعة العمل وأن تصبح الصيدلية ركنا أساسيا من أركان خدمة المحتاجين، نظرا للحاجة الملحة للأدوية، فقررت من منطلق شخصي وعند توسع معارفي إطلاقَ المشروع على مستوى المحرر فكانت صيدلية آية المركزية بمدينة إدلب مع بداية 2018".
وبعد ازدياد الطلب ونقص الوارد الدوائي في الشمال السوري وارتفاع حدة التوتر والقصف على امتداد الطريق الدولي M4، ازداد عدد الصيدليات الخيرية وتم افتتاح فرع في مدينة أريحا لتغطي احتياج منطقة جبل الزاوية وذلك بالتعاون مع جمعية "مرج دابق"، كما تم افتتاح فرع ثان في بلدة بدنا بريف المحافظة الغربي "لتغطية أكبر مساحة ممكنة مع توقف عمل الصيدليات الخاصة"، بحسب محدثنا.
عمل الصيدلية ومصادر دعمها
ولمحاولة قياس مدى المساعد التي تقدمها الصيدليات الخيرية، أوضح المصطفى أن فرع مدينة إدلب لوحده يقوم بصرف أكثر من 2000 وصفة طبية يومياً، بنسبة تتجاوز الـ 50% لكل وصفة.
وتعمل كل من صيدليتي إدلب والساحل من التاسعة صباحاً وحتى الرابعة عصراً، فيما تعمل صيدلية أريحا من الثالثة عصراً وحتى الثامنة مساءً، ضمن كادر طوعي بالكامل مؤلف من أكثر من 20 متطوعاً، منهم صيادلة يعملون على صرف الوصفات الطبية، وإعلاميون وفنيون.
وتحصل الصيدلية الخيرية على الأدوية من خلال التبرعات، وعن طريق التعاون مع العديد من المنظمات الطبية والإنسانية.
وعن أصناف الأدوية التي تتوفر في الصيدلية قال المصطفى: "تتوفر لدينا أدوية الرعاية الأولية والثانوية وأدوية الغدد وأصناف نوعية من الأدوية كأدوية الكلية وأدوية الكبد وبعض أصناف الأدوية السرطانية والتي تعتبر واحدة من أكبر الأعباء بسبب غلاء سعرها وعدم توفرها".
ويضيف المصطفى: "كانت جمعية iphs الدولية تقوم بتأمين أدوية جيدة جداً وعلى رأسها أدوية سرطان الدم imatineb وبكميات وفيرة، إضافة للصادات الغالية الثمن كالفانكو والألبومين ولكن للأسف توقف نشاطها منذ أعوام مما سبب عجزا دوائيا كبيرا، ولا يزال التواصل معهم مستمراً بهدف عودة النشاط الدوائي للشمال السوري".
كما يتم تخصيص يوم الخميس لاستقبال وصفات وتنسيق إيصالات الأدوية المزمنة كالسكري والضغط وغيرها، وذلك لتأمينها والعمل على تسليمها بشكل دوري وشهري.
الصيدلية الخيرية حاجة ماسة ومقصد للأهالي من شرقي حلب
ويعتبر المصطفى بأن وجود الصيدلية الخيرية وانتشار مراكزها في العديد من المناطق هو حاجة ماسة للسكان في الشمال السوري وخاصة المهجرين والنازحين في المخيمات، فسعر أبسط نوع من الأدوية يتجاوز العشرة ليرات تركية وهو يعادل نصف دخل الأسر الفقيرة، وذلك عدا عن الأسر المعدومة الدخل، وبات كثير من الناس يعجزون عن شراء أبسط الأصناف الدوائية كالسيتامول مثلاً.
وذلك ما يؤكده قدوم وصفات طبية لصرفها لمرضى من مناطق بعيدة كمخيمات الحدود السورية التركية ومناطق عفرين والباب شمال وشرقي حلب، كحال مختار الذي تعرف على الصيدلية الخيرية عندما تعرض لإصابة حربية قبل عام ونصف وبات يعجز عن تأمين الدواء بسبب النزوح والظروف الصعبة.
يقول مختار النازح من مدينة سراقب إلى ريف عفرين: "أقطع عشرات الكيلومترات قادماً إلى إدلب بهدف الحصول على الدواء المجاني لوالديّ المسنين المصابين بأمراض مزمنة، فأحصل من الصيدلية الخيرية على أدوية السكر والضغط والشحوم والقلب بشكل شهري دوري وبالمجان".
وأشار مختار إلى أنه في حال اشترى دواءه ودواء والديه من الصيدليات الخاصة فإنه يحتاج لـ 210 ليرات تركية شهرياً.
ويتابع مختار: "لدي أيضاً أقارب نازحون إلى مدينة الباب وصديق في اعزاز جميعهم يحصلون على الأدوية من الصيدلية الخيرية في إدلب، فصديقي كان يدفع 85 دولاراً أميركياً شهرياً ثمناً لأدوية سرطان المعدة والبنكرياس لوالدته قبل أن يبدأ بالحصول عليه مجاناً من الصيدلية الخيرية.
هذا وتبقى الحاجة لتأمين الدواء غاية في الأهمية بالنسبة لسكان الشمال السوري الذين يعانون من ظروف صحية ومعيشية صعبة للغاية وسط ارتفاع كبير بأسعار الدواء وغياب الرقابة الحقيقية على الصيدليات التي تبيع الدواء بأسعار مرتفعة تختلف من صيدلية لأخرى بسبب عدم وجود تسعيرة دوائية ورقابة ملزمة ومؤسسات حكومية تردع المستغلين.