شكلت عودة رفعت الأسد إلى سوريا ضربة أخرى لأمل السوريين في واقع مختلف، كانوا قد حاولوا الوصول إليه مرارا طوال خمسين عاما من حكم آل الأسد.
الجنرال السابق ومالك "سرايا الدفاع" كان قد فتح مع هذه الميليشيا خندقا ملغوما بين السوريين ملؤه الرعب والخوف وعدم القدرة على الحوار، كانت سرايا الدفاع حالة طائفية بحد ذاتها زعزعت أي محاولة أتت بعدها لتأسيس عقد اجتماعي جديد بسبب الآثار المدمرة التي تركتها سلوكيات ضباطها.
فدورات القفز المظلي لم تكن سوى أداة لعسكرة المجتمع وترغيبه بالعسكرة وإبعاد المدنية عنه، بكل ما يعني ذلك من زرع الخوف والرعب وإعطاء الفرصة للمحسوبيات والولاءات، وأولها الطائفية، بأن تنهش في قيم مجتمع آخذة بالتحلل، قيم مواطنة ومساواة وعدالة، لم يكتب لها الزمن لتقوى ويشتد عودها في المجتمع السوري ما قبل السبعينات.
لا تقل مجزرة حماة بشاعة عن حادثة نزع الحجاب عن رؤوس فتيات وسيدات في شوارع دمشق، والتباهي من قبل المظليات بما فعلن
خارج سرايا الدفاع، كان الخوف من عناصرها وضباطها حالة تدعمها وتنشدها الطغمة الحاكمة في سوريا نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، حالة تذهب في المنحى ذاته مع إجهاض الحركة النقابية وإضراباتها، نحو تركيع المجتمع باستخدام عناصر منه لترهيب عناصر أخرى.
وفي هذا الإطار لا تقل مجزرة حماة بشاعة عن حادثة نزع الحجاب عن رؤوس فتيات وسيدات في شوارع دمشق، والتباهي من قبل المظليات بما فعلن، وحالة الخوف التي تركتها الحادثة شكلت بداية خندق كبير سيتسع ليكون في العام ألفين وأحد عشر فجوة سحيقة بين طوائف المجتمع السوري.
التجويع الذي مورس في الثمانينات بعد المجزرة، هو ذاته ما يتم اليوم بعد المقتلة السورية، وكلما حاول الجياع فتح أفواههم بأسئلة مشروعة جاءهم حادث أمني يروعهم ويخرسهم من جديد!
على ويكيبيديا صفحة يتم الحديث فيها عن سرايا الدفاع على أنها كانت أداة لحماية دمشق، في الوقت الذي كانت فيه هذه السرايا خنجرا غرس في خاصرة دمشق، حيث شكل وجود عناصرها في مناطق محددة من جوار دمشق وبناء مساكن عشوائية تكاد تكون غير صالحة للسكن، مشكلة تفاقمت فعانى هؤلاء أكثر من سواهم بسبب هذا الوضع، وفي الوقت ذاته مارسوا بلهجتهم سادية وغطرسة تجاه مكونات أخرى من المجتمع، محاولين بذلك تفريغ عقدة تم زرعها عبر "قائد" سرايا الدفاع وسواه ممن تولوا مقاليد الأمور في تلك الفترة، الفرد الذي تحول أداة قمع ممنهج، كان يظن أنه سيد!
وربما تحتاج هذه الحالة وقفة تحليلية في الطب والعلاج النفسي، وهي تستحق ذلك، لأنها تركت ظلالها طويلا على المجتمع السوري.
غادر رفعت الأسد بعدما فشل في الانقلاب على السلطة في دمشق، ثم عاد وغادر، مع ملايين الدولارات المسروقة من جيوب الفقراء الذين لطالما هتفوا بحياته وحياة أخيه، وحياة عائلة تشكل اليوم واحدة من أقدم وأعتى الديكتاتوريات النموذجية، حكم ميليشيوي بأدوات طائفية واقتصادية، حكم يبيع الناس شعارات وبطولات في الوقت الذي يسوق لهم كل يوم ألف هزيمة.
أكمل رفعت الأسد النصب والاحتيال في أوروبا، وكللها بتهرب ضريبي لم يعد خافيا على أحد، واستطاع الهرب إلى دمشق، ليثبت العالم الأول مرة أخرى أنه غير معني بالعدالة وملاحقة المجرمين.
سمع الناس في اللاذقية رصاصا احتفاليا مع عودته، أطلقه "زلم" أولاده، العودة التي قيل إنها قد تشد عصب الطائفة المتراخي، لا أعتقد شخصيا بجدوى ذلك فقد أصبح الوضع كبنطال عتيق يستحيل ترقيعه من كل مكان فيه، وصارت الأمور مكشوفة إلى الحد الذي يعي فيه الناس البسطاء إجرام هذه الأسماء الكبيرة، لكنهم مهددون هذا المساء بمبيت صغارهم جوعى! فما الحل؟
آن الأوان ليعي السوريون أن القيمة الأسمى هي بناء دولة، عمادها الأول الإنسان، وليس "القائد"، والقيمة العليا فيها للعدالة، وليس للبلطجية والهاربين
يعي السوريون أن رفعت الأسد لن يحمل إلا الأشياء السلبية، هو الهارب من السجن الفرنسي الباحث عن حفظ ماء الوجه بعد مسيرة حافلة بكلمات التعظيم لـ "القائد"! لكنهم أيضا مشغولون باليومي الذي يهدد بالموت من الجوع حرفيا بالنسبة لعدد كبير منهم، وهم يعلمون أن لا أحد يبالي بهم وقد صرفت أموال رفعت وباسل ورامي مخلوف في ما لا يفيد، وقد كانت هذه فقط كفيلة ببناء اقتصاد وتأمين عدد كبير من فرص العمل ووضع أسس تنمية حقيقية، لكن من يبالي بالناس، في بلد أصبح كل شيء فيه أغلى من الناس!
ربما آن الأوان ليعي السوريون أن القيمة الأسمى هي بناء دولة، عمادها الأول الإنسان، وليس "القائد"، والقيمة العليا فيها للعدالة، وليس للبلطجية والهاربين.
هذا الوعي وحده كفيل بإخراجنا من المقتلة..