"إذا كان مصير الديمقراطية أن توجد يومًا ما في روسيا، فلن تكون موجودة بسببك، بل على الرغم منك. من المحزن بالنسبة لي أنك فقدت روحك، وأنك لم تكن قادراً على التطور من سكرتير للحزب الشيوعي إلى إنسان". بهذه الكلمات القاسية خاطب سيرجي كوفاليف، وهو واحد من أساطير حقوق الإنسان في روسيا المعاصرة، الرئيس بوريس يلتسين. كان ذلك في خطاب الاستقالة من منصبه كرئيس للجنة حقوق الإنسان التابعة للرئاسة، الذي أرسله له عام 1996، بسبب ما ارتكبته القوات الروسية في الشيشان من تدمير وقتل.
بعد أقل من شهر على بدء حرب بوتين على أوكرانيا رفضت المحكمة العليا الروسية الاستئناف الذي قدمته مجموعة حقوق الإنسان "ميموريال"، التي قادها كوفاليف لسنوات طويلة قبل وفاته صيف عام 2021، ضد أمر السلطات تصفية الجمعية ومنعها من العمل. حدث هذا بعد أكثر من ثلاثين عاماً من عمل الجمعية لتوثيق قضايا الضحايا ومجمل التاريخ السري للقمع السوفييتي.
بينما تُعتبر تلك الذاكرة في الواقع درساً للشعوب لعدم تكرار مآسي الماضي، فإنها تبدو من وجهة نظر السلطات، حين تقيّض لها الظروف أن تغدو استبدادية وممسكة بكل مقاليد السلطة، بمثابة (بروفا) تحتاج إلى بعض التحسينات من أجل تكرارها بطريقة أكثر فاعلية
دائماً وفي جميع أماكن الصراع والأزمات، هناك ناشطون يوثقون، عندما يتوفر لهم ذلك، جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، الإخفاء القسري والتعذيب والإعدام خارج إطار القانون، والهدف من هذا العمل إضافة لإظهار الحقائق، هو التأريخ بهدف الحرص على عدم تكرار ما حدث مستقبلاً. في بدايات القرن الحادي والعشرين يبدو أن الاستفادة من الدروس التي تتضمنها التوثيقات لم تعد تعني أي شيء، أو على الأقل هي غير ذات فاعلية واقعية في عالم اليوم.
بينما تُعتبر تلك الذاكرة في الواقع درساً للشعوب لعدم تكرار مآسي الماضي، فإنها تبدو من وجهة نظر السلطات، حين تقيّض لها الظروف أن تغدو استبدادية وممسكة بكل مقاليد السلطة، بمثابة (بروفا) تحتاج إلى بعض التحسينات من أجل تكرارها بطريقة أكثر فاعلية، معتبرةً أنها ستفلت بفعلتها. للأسف، هذا ما يحدث بالفعل رغم كل الأماني والدعوات إلى عدم الإفلات من العقاب.
محلياً، حدث هذ الأمر في حماة، عندما تم تدمير جزء من المدينة، وتم قتل وإعدام وإخفاء عشرات الآلاف عام 1982 أيام الأسد الأب. ثم عاد الابن ليكرر المجزرة معممةً على كامل أرجاء سوريا. فلم يكن للتاريخ أن يقوم بدوره بمثابة الدرس، لا للأسد ولا حتى لمناوئيه من الإسلاميين المتطرفين فيما تلا من سنوات على انتفاضة السوريين. عالمياً، يبدو الدرس الأشد نصاعة والذي لم يتعلم منه الديكتاتور، هو تدمير أجزاء من الشيشان على يد بوريس يلتسين وفلاديمير بوتين في تسعينيات القرن الماضي. ليعود بوتين ويكرر نفس الجرائم في أوكرانيا، بقوة تدميرية أشد في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين. غالباً ما تتم هذه النوعية من الجرائم بمساعدة عصبة موالية من الانتهازيين الذين يستفيدون من الجريمة، وبصمتٍ من مؤثرين لا ينبغي لهم الصمت. والمؤسف أكثر أنها تحدث رغم كل نضالات مناهضيها.
في المحكمة كشف المدّعون الروس عن دوافعهم الحقيقية، مدّعين أن "ميموريال" تشوه الذاكرة حول الحرب، وتعيد تأهيل النازيين! وتخلق صورة خاطئة عن روسيا كدولة إرهابية، وكذا تشوّه تاريخ الجمهوريات السوفييتية. كان المدعون محقين في تخوفهم من الجمعية الإنسانية، فعلى الأغلب أن كل ما ذكره كوفاليف من توصيفات في تقاريره عام 1995 بمواجهة الحرب على الشيشان سوف يتكرر، حرفياً تقريباً، خلال الحرب على أوكرانيا: "الاستهداف العشوائي للمدنيين، الجنود الروس الذين يمتلكون معلومات كاذبة، قيادة روسية أشبه بمنظمة مافيا، أكثر من كونها حكومة" بحسب وثائق تلك الفترة.
كان كوفاليف قد عارض الغزو الروسي لجورجيا عام 2008، ثم الاعتراف الروسي بالدولتين الانفصاليتين، أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. ووقع عام 2010 على البيان المناهض لبوتين تحت عنوان "على بوتين أن يرحل". كما كان له موقف مشابه ضد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، ودعم روسيا السياسي والاقتصادي للدولتين الانفصاليتين دونيتسك ولوهانسك. كل هذا أدّى لتكون منظمته موضع استهداف السلطات الروسية. فمن غير المناسب لدول الاستبداد تدوين الوقائع والتاريخ كما يجري فعلياً على الأرض، وهي تحاول دوماً ترويج روايتها الإيديولوجية عن حروب التحرير المحقّة.
كان كوفاليف قد اعتقل وحوكم بتهمة "التحريض والدعاية المناهضة للسوفييت" عام 1974، وقضى سبع سنوات في السجن الصارم المخصص للسياسيين "بيرمستون36" في أقصى الشرق الروسي
بعد قناعته أن يلتسين قد غادر الطريق إلى بناء روسيا ديموقراطية، سيخاطب كوفاليف الرئيس قبل الانتخابات التي سيخوضها بمواجهة منافسَيه اللذين لم يكونا محل احترام لديه أيضاً "قريباً ستأتي الانتخابات، وأنت تصف نفسك بأنك البديل الوحيد. هذا ضربٌ من العبث. فأنت لديك صفات مشتركة معهما أكثر من الاختلافات. وإذا كان علينا الاختيار بينكم، فسيكون الأمر أشبه باختيار واحدة من منظمات المافيا والتقدم إليها للحصول على الحماية. قلوب الناس في ألسنتها، وهم سيصوتون للمرشح الذين يتوقعون منه قدراً أقل من الابتزاز وخطراً أقل. شخصياً، رغم أني لا أقبل المنافسين، لكنني لن أصوت لك أيضاً".
كان كوفاليف قد اعتقل وحوكم بتهمة "التحريض والدعاية المناهضة للسوفييت" عام 1974، وقضى سبع سنوات في السجن الصارم المخصص للسياسيين "بيرمستون36" في أقصى الشرق الروسي. اللافت أنه بمجرد خروجه عاد لنشاطاته دون هوادة. من حسن حظه أن ترافق ذلك مع فترة بيروسترويكا غورباتشوف، وما رافقها من آمال في التغيير، وهذا ما حدث فعلاً، قبل أن تأتي الانتكاسات المتتالية خصوصاً في فترة حكم فلاديمير بوتين.
مع تعرض الآلاف من المتظاهرين للضرب والاعتقال في شوارع موسكو وأكثر من مئة مدينة روسية أخرى ، قائلين "لا للحرب" التي شنها بوتين على أوكرانيا في شباط/فبراير 2022. صرّحت إيلينا زيمكوفا التي خلفت كوفاليف في رئاسة "ميموريال"، وقد أسساها معاً في الثمانينيات من القرن الماضي: "منظمتنا مدمرة، لكن عملنا مستمر للعثور على عائلات الضحايا، وللحفاظ على ذاكرة القمع السياسي. لم نعد إلى المربع الأول، فالكثير مما جمعناه أصبح رقمياً وموزعاً ويشكل جزءاً من تراث العالم... كانت فكرتنا الأولى، قبل جمع الوثائق أو إقامة النصب التذكارية، هو منع حدوث مثل هذا القمع مرة أخرى، لكننا الآن نبدأ رحلتنا الطويلة من جديد، لإعادة روسيا إلى الإنسانية المتحضّرة".