كما جرت العادة خلال سنوات تهجيرنا الأخيرة، وبدل أن نصحو على نبأ استثنائي يساعدنا على النهوض، يصدمنا رحيلٌ آخر تسجّله ذاكرتنا الاغترابية، اللاجئة والمُرّة؛ حمل هذه المرة اسم الكاتب والأديب والمخرج المسرحي السوري "غسان جباعي"، مقاوِم سلطة الاستبداد الذي سبقتْ ثورتُه على طغمة الأسد ثورةَ السوريين الأخيرة بعقود؛ أدباً وفكراً وفنّاً... وجسداً.
رحل صاحب رواية "قهوة الجنرال"، الرواية الوحيدة التي استطاعت توصيف "شرب فنجان القهوة" في فروع مخابرات النظام في سوريا الذي تمتد جلسة شربه داخل سراديب المعتقلات سنين طوالا لا يحسّ بها إلا مرتشف ذلك الفنجان!
رحل غسان جباعي صاحب مسرحية "العنبر رقم6" التي ألّفها وقدمها داخل معتقله في "المسلخ البشري" صيدنايا، في ثمانينيات القرن الماضي، وصاحب رواية "قمل العانة" التي شكّلت أول مزيج بين أدبيّ السجن والحرب.
بدل أن تفتح له سلطات الأسد أبواب مسارحها وجامعاتها بعد عودته إلى البلاد عام 1982، فتحت لغسان باب معتقلاتها وسجونها ليقضي فيها نحو عقد من الزمن.
رحل صاحب مسرحية "الشقيقة" التي سطّرها في معتقله الآخر بـ "تدمر" وتناول فيها تفاصيل ذلك السجن الوحشي، معتبراً تلك المسرحية الأجمل والأعز على قلبه. دونها غسان بخط دقيق على ورق السجائر وتمكن -رغم المخاطر- من تهريبها داخل منحوتة خشبية صنعها خصيصاً لذلك. ولأن مسارح النظام تأبى إلا أن ترسخ "الدولة/ المزرعة"، فما إن خرج غسان من المعتقل حتى حول تفاصيلها من "تدمر" إلى سجون "الأعداء" الذين طُبلت بهم آذاننا، وأخرجها لصالح المسرح الوطني الفلسطيني قبل أن يقدمها على مسرح الحمراء الدمشقي (1992). إلا أن كل من تابعها يدرك تلقائياً أن تلك التفاصيل لا يمكن أن تحدث إلا في أقبية الأسد.
فارقنا جسد غسان جباعي ليلة أمس الأحد، بعد عطاء استمر 70 عاماً وشمل مختلف أشكال الأدب والفكر والفنّ الصادقة والملتزمة بكرامة الإنسان وحريته وانتمائه، وبعد مواكبة لثورة السوريين منذ أول يوم لها في ربيع 2011. وفي دمشق التي مُنع من مغادرتها منذ خروجه من معتقله (1991) ودّعَنا غسان، بابتسامته العميقة والعنيدة، نحن السوريين المتشظّين في الشتات وبلدان اللجوء، من دون أن نلقي عليه نظرة الوداع والاحترام الأخيرة.
ولد غسان في مدينة قطنا بريف دمشق الجنوبي عام 1952، وهو ابن عائلة تنحدر من السويداء. حصل على إجازة في الأدب العربي من جامعة دمشق، إلا أن المسرح شغله مبكراً حيث رأى فيه فضاء لتمثيل مفهومه عن الالتزام، فسافر إلى العاصمة الأوكرانية كييف حيثُ درس في معهد "كاربينيكا كاري" وتخرج فيه عام 1975، ثم تابع مسيرته الأكاديمية ونال شهادة الماجستير في الإخراج المسرحي عام 1981 عائداً بعدها إلى دمشق.
وبدل أن تفتح له السلطات أبواب مسارحها وجامعاتها بعد عودته إلى البلاد عام 1982، فتحت لغسان باب معتقلاتها ليقضي فيها نحو 9 سنوات، تنقل خلالها بين فروع الأمن العسكري وسجني تدمر وصيدنايا، بتهمة الانتماء إلى "حزب البعث الديمقراطي"، قبل أن يخرج منها عام 1991.
أهمية غسان جباعي وأعماله
برز اسم غسان جباعي على الساحة الأدبية السورية بقوة بعد نيله الحرية، إذ توزّعت أعماله بين التأليف والإخراج والتمثيل. فعلى على صعيد الكتابة الدرامية قدّم جباعي للتلفزيون مسلسلات: "تل الرماد"، و"طيارة من ورق" و"رمح النار" و"عمر الخيّام" و"بقايا صور"، وغيرها.
وعلى صعيد الكتب، ألّف غسان القصة القصيرة والرواية، ومنها: قصص "أصابع الموز" و"الوحل"، ورواية "قمل العانة" 2020 وقبلها رواية "المطخ" 2018، وكذلك كتب الشعر في ديوان "رغوة الكلام". كما أصدر عدداً من الدراسات النقدية مثل "الثقافة والاستبداد" و"المسرح في حضرة العتمة".
أما في المسرح والسينما والتمثيل، فقد ألف جباعي وأخرج العديد من النصوص المسرحية أهمها: "جنراليوس" و"الشقيقة" و"مقتل السهروردي" و"بودي الحارس". وكذلك لعب أدواراً في أفلام سينمائية عديدة منها "الكومبارس" و"شيء ما يحترق" و"اللجاة" وعمل على إنتاج أفلام وثائقية أيضاً حول أدب السجون، وكلّها يقع خارج القوس التجاري، وبمواضيع نقدية تتناول السلطة والمجتمع.