من الوهلة الأولى، عنوان غريب (قمل العانة) وإهداء أكثر غرابة: "إلى أصدقائي الموتى الجالسين في القبور"، لتأخذك الرواية بنسيج لغتها وتداخل شخوصها بأحداثها إلى رواية جديدة؛ رواية تكتب رواية بلغة ترسم مجازاتها بالريشة، وتمزج ألونها بماء الرماد، رواية لا تحدد تاريخ أزمنتها "روزنامة" يومياتها.
قبو في داريّا هو الميقاتية التي يحركها عنكبوت الوقت فيغدو المساء قبل السجن بقليل ومنتصف النهار بعد الهذيان بـ "بارجة"، والليل قبل "الكندرة" الصفراء بجرذ مفزع. هكذا ارتجاج الأرض بالدمار والموت؛ اهتزاز لكائناتها بتناقضاتهم بخيباتهم بكذبهم المدهش وحقيقة وهمهم المفعمة بالخوف. إنها رواية بفنتازيا من سرد وبناء، ترسم ألوانها من الرماد. ولماذا بفنتازيا من السرد والبناء، وليس كل السرد والبناء، ولماذا "ترسم" لونها من الرماد؟
اشتغل الكاتب غسان الجباعي روايته بـ فنتازيا شكّلها تداخل السرد والبناء، وتكنيك الروي ووهم الشخصيات وحقيقتها، ووجودها وغيابها. لكنها شخصيات ذات مرجعيات فزعة وموتورة وقلقة، وقاتلة ومقتولة، تلك التي تحكي عنها الرواية وتلك التي تكتب الرواية. فمن سيكتب من؟ ومن يضلل القارئ ثم يعود لينير ما بين سطوره متذرعاً به؟
إنها رواية من (الرماد) يرسم لونها فنانون تشكيليون ينحتون شخوصها، ببعدهم الثالث وحركتهم في لوحات أحداثها، يمزجون طباعهم من صنّاع الحرب وضحاياها ومن ضحايا القتلة وصنّاعهم
إنها رواية من (الرماد) يرسم لونها فنانون تشكيليون ينحتون شخوصها، ببعدهم الثالث وحركتهم في لوحات أحداثها، يمزجون طباعهم من صنّاع الحرب وضحاياها ومن ضحايا القتلة وصنّاعهم، من خوف ما بعد القضبان وما قبل الموت. يلهثون بزمنها ويرسمون جغرافيا خلقه وحتفه، ولكن إيقاع (فنتازياهم)، إن صح التعبير، يخبو ويعلو، يتجلى غموضاً مفعماً بالأسئلة، وينبسط رتيباً يربك خيال القارئ وتوقد ذهنه، وتصير كل حكاية منشورة على حبال غسيلها لكنها في شرفة رواية واحدة مطلة على البحر، وعليه، لنقرأ رواية " قمل العانة " بقراءة جديدة، علينا تفكيكها إلى حكايات، أو البدء من نهايتها لنقول (غسان وهند) قررا كتابة رواية، ولكن من هو غسان؟ الراوي أم الكاتب أم غسان الجباعي، ومن هي هند؟ طهران زهر البان أم ميساء أم زوجة الجنرال أم عشيقة جفان؟
قبو داريّا
بفستانها الأبيض الجميل و"كندرتها" الصفراء بكعبها العالي، تأخذنا "هند" إلى قبـو معتم ودرج مهدوم، كان عليه أن يصعد بها إلى الضوء، لكنه أنزلها إلى "فوبيا" الخفافيش والحشرات، ومن ذاك القبو تحت بناية في"داريّا" تبدأ الرواية، بناية دمرتها الحرب، وملأ الركام مدخلها الكبير، "فما بالك بقبـو يجثم تحتها، فاحت منه روائح الجثث والفضلات، وبات حاوية للخراب".
في قبو داريا بزمنه الوقائعي يمنح الكاتب للأحداث مشهديتها، وتتخللها حوارات بين شخصيتين "هند" و"فرج" ويسرد الراوي عبر زمنه حكاياته عن المرسم وعن علاقة هند الخاصة بالراحل "جفان" وعلاقة فرج اليتيم بهما كرسّامين، وعلاقة جفان الآن بما يشاهدانه في القبو من جرذان وحشرات ولوحات وأثاث، ضمن مغامرة تهدف، في زمن الحرب، للبحث عن بقايا محتويات مرسم أو مشغل كانت هند وفرج الله يعملان فيه مع صديقهما جفان، ومن سوء حظها تعثرت هند في مدخل القبو بقضيب حديدي نافر، "فتمزق فستانها الأبيض المورد الجديد"، وبعد خلعهما لباب القبو الحِديدي، انبثق ضوء من فجوة أحدثتها في جداره قذيفة هـاون أو دبابة مارقة، ومن بين الضوء الذي رسم مع الغبار أشكالاً وظـلالاً فوق الحيطان والسقف، سمعت هند وحدها صوتاً يأمرهما بالخروج: "اطلعوا برا".
هناك، خلف تلـك الستارة، رأت "جفان"، وقـد عاد إلى أصله، عارياً لا يستر جسده إلا شعره الأسود، بـدا لها كائناً فاقـداً للجاذبية الأرضية، أعضاؤه التناسلية نافرة مثل، مثل، وحدث أمر طارئ، لم تتمكن بعده من وصف أي شيء، لم يكن عضواً تناسلياً، بل فـأراً حقيقياً سميناً جداً، يختبئ بين ساقيه وينظـر إليهـا بخرزتـين لامعتـين، وما أن قفز هذا الفأر من بين ساقي "جفان"، وركض مسرعاً ليختبئ، حتى زعقت، وهربت من المكان، خارجة عن طورها، كانت منفعلـة لدرجة أنها لم تكن مستعدة لتصديق رجل واحد "فرج"، وتكذيب عينيها الاثنتين، تركته وخرجت مذعورة، وعادت وحيدة إلى بيتها؛ غير عابئة بالعيون وبنادق القناصين، ولا بفستانها الممزق من الخلف، وساقيها المجروحتين، ومؤخرتها شـبه العارية.
الفستان الأبيض
ربما كان لهذا التناقض بين: "كان يجب عليها أن تلبس سروال جينز قديم وحذاء" وبين: "لبست هذا الفستان الرقيق المورد، وحملت حقيبة جلدية لافتة، كي لا تشك بأمرنا العيـون المتربصة"، أن يمر كتلميح من أمام القارئ، أو كتناقض عابر بآراء الشخصيات، لكن الكاتب يعود للفستان الأبيض، في الجزء الثاني من فصل روايته الأول، كاستمرار لحدث وقع فعلاً، وليبدأ بـ فنتازيا التداخل بين الحلم والواقع، والوهم والحقيقة، في حين يتراجع زخم اللغة ويرتبك السرد.
تستيقظ هند من نومها عارية، وتتفاجأ بوجود الفستان الأبيض مشقوقاً من الخلف، وهكذا تتنكر لوقوع أحداث وتستمر في أخرى، وعلى القارئ أن يبدأ برسم خطوط بيانية كي يتابع تجليات تبادل السرد والروي:
"لا يا سيدي الكاتب! ليس حلماً ولا كابوساً! لم أذهب مع فـرج إلى أي مـكان لم أكتشف أننـي عارية، لا يوجـد لدي أي فستان، لا تحاول التلاعب بالوقائع ولا بالأحلام". إذن طهران، أو هند التي تقر بأنها رأت الكاتب لمرة واحدة في مكان ما، وربما في الحلم ، قرأت ما كتبه في الجزء الأول، ودخلت معه في حوارات ومناكفات واتهامات، ثقافية وسياسية واجتماعية وجنسية وأدبية ، ونقاشات حول بناء الرواية وشخوصها، وحول الكاتب ذاته، "لكنك محض متحرك روحي ياسيد.! لا تستخدم قلمك ولا أصابعك، بل خيالـك العاجز" وهكذا غاب المكان بمشهديته وبهت البناء وصارت الكتابة أقرب إلى "الذهنية" بلغة خاصة مربكة الدلالات.
في المحصلة توافق هند، التي لا تحب الكتّاب العرب، على التواطؤ المشترك، وتبدأ بسرد سيرتها: هي من قرية "ظهر الدب" المطلة على البحر، وكانت وحيدة لأهلها، وتحب الرسم، وعاشت طفولة حالمة مع الزبد والألعاب البريئة على الشواطئ والإطلالات الساحرة، ويعود المكان للحضور رويداً رويداً وترتقي اللغة من جديد، وتتداخل حكايتها مع الكتابة والروي، وتعود من جديد إلى جفان وفرج القبو واللوحة التي تتحرك بها الجرذان، ومن جديد يعود الانقطاع بينهما، أي الكاتب والراوية، ويسعى الآخر إلى نبش حكايات عشرين سنة من حياتها بأسئلة محرجة ومستفزة، أسئلة العارف تارة، والواهم تارة أخرى، وتتسلل الغرائبية في جوهر الشخوص وإشكالية تعاملها مع معطيات الحياة بكل تفاصيلها وثنائياتها.
تناوب الروي
لمحاولة حثها على الكتابة أو الروي، يتقمص الروائي شخصية رسام منسي، يكتب حكاية جديدة، إنها عن ذهابه إلى فرع التحقيق 201، يحمل كنفاً ومجرفة، ويظل خمسين سنة يمشي دون أن يصل إلى هناك في حلمه الأبيض والأسود، ومن ثم يسقط فعلاً عن السرير، ولم ترد على حكايته، فرجع إلى نص قديم عنوانه "كلب بن كلب" عن كاتب معروف يخاف من كلب مربوط، مدرب على فضّ المظاهرات، ويكون شبيهاً بالكلب الذي داخل قصته، وتتابع الحكاية تداعياتها ليصل إلى أنه كابوس مزدوج "كابوس داخل كابوس" ، وأيضاً المرأة لا ترد عليه، وهو بحاجة لها كي يكمل روايته، ولكن حين تعرف لاحقاً أنه توقف عن الكتابة، تبدي انزعاجاً كبيراً، وترسل له مقطعاً عن جفان وفرج، وهكذا لتكمل الحكاية بوحها عن جفان وتفاصيل سجنه وتعذيبه، ولقائه في سجن تدمر بفرج ، فرج اليتيم أو اللقيط الذي وُلد في السجون وعاش طفولته ومراهقته بين الجدران وخلف القضبان، (وكان يطيب للطفل أن يحبو في ذلك البهو، بعد حفلات التعذيب، وكثيراً ما كان يلوث يديه وركبتيه بالدم).
المقطع الذي أرسلته هند عن فرج وجفان أكمل حكايتهما إلى ما بعد السجن وعودتهما من جديد إلى المشغل في داريا، حاملين أعباءه وبقاياه الجسدية والنفسية، وفي الوقت نفسه أعاد الكاتب إلى ما يسمونه "أدب السجون" الذي يريد الخروج من دائرته الجهنمية، لكن القدر قاده إلى هذه المرأة التي عرف بالمصادفة أنها لم تكن معتقلة، بل زوجة ضابط كبير من ضباط الأمن تم ترفيعه إلى رتبة لواء شرف، بعد مقتله في ظروف غامضة، وهكذا يحيط الكاتب غسان الجباعي بأدب السجون من كل جوانبه، يبدأ من صرخة رحمه وولادته في الأقبية، وطفولته وصبوته، ويدخل في أعماقه الذكورية والأنثوية المتقرحة بالدمامل، ويخفق مع كل مساماته في عتمة الزنازين وسواد الفصول، ويخرج معه إلى عالم جديد في فصام مرعب وصدام مع أبجدية الحرية وباكورة الحياة، ولا ينسى أن يبحث في تكوين صنّاع خامات هذا "الأدب" وتشكل "أبطاله" وملاّك أمكنته السرية والعلنية، و(البحث عن بطانة تلك الخصوصية المبهمة السريالية المريبة التي تشوب حياة هذا النوع من البشر، والتي لا نعرف عنها إلا القليل).
ينتهي الفصل الأول من الرواية بغموض رمادي يحيط بشخصية جفان، ووضوح واقعي يقرب شخصية هند من الحقيقة، وذلك بإقامة علاقة جنسية "بثدي واحد" مع الكاتب نفسه، وبعيداً عن تفاصيلها واللغة الساحرة التي رسم بها هذه العلاقة، منذ بدايته وحتى نهايتها، تأخذ مفتاح شقته وتخرج بعد أن تعده بإرسال مقطع "من البوح الصافي، ليس له أي علاقة بالرواية"، ليبدأ به الفصل الثاني من " قمل العانة"، ويصير الروي كالحديث "المعنن" يحكي الجنرال لميساء وميساء تحكي لأختها وأختها تحكي للكاتب، وحتى الجنرال وهو سكران حكى قصة مطولة لزوجته عن الكلبة "لولو" وصاحبها مؤنس وزوجته صفاء، قصة من زاوية رؤية مختلفة، لكنها تصب في أدب السجون (سألته ميساء عندما أكمل قصته إن كان قد وفى بوعده لصفاء زوجة مؤنس، فقال مستغرباً سذاجتها: مؤنس،! مات بعد كلبته بوقت قليل،. رفض الحيوان أن يعترف بأي شيء فمات تحت التعذيب).
الوسواس القهري
تحكي الراوية أن ضابطاً تزوج من أختها ميساء، ورغم اكتمال محاسنه وصفاته، يعاني مثلها -أي هند التي زارت قبو داريّا- من رهاب الفئران والصراصير، ويحرم أختها من الإنجاب بربط قنوات فالوب التي بين المبيض والرحم، ويحرمها من التسجيل بكلية الفنون ومن ممارسة حياتها الطبيعية، وتعيش في حالة غموض وخوف دائمين، وأما الضابط فيرتقي بدرجات رتبه ليصير مسؤول فرع من فروع الأمن، ومن حياة هذا الضابط يسلط الكاتب الضوء على الجانب الآخر من "أدب السجون"، على المحقق والجلاد ليجيب عن أسئلة الرواية الطازجة والجريئة المتعلقة بالحرب "الكونية" والموت والقتل والسحل والاغتصاب والفزع والخوف، والسجن الذي يطول السجين والسجّان، السجّان المحقق والجلاد والجنرال:
الجنرال الذي يعاني من الوسواس القهري، من فوبيا الفئران والصراصير، ثمة أمراض نفسية وجسدية ظهرت على السطح في معمعات الحرب "الكونية"، فصار في حالات سكره وهذيانه يحكي لزوجته عبر الهاتف عن تسلل الصراصير من القبو إلى غرفته، واقتحام كتائب من الفئران والجراذين لمكتبه، وعن تسرب الدماء من السقف،. لكن أكثرها تأثيراً على زوجته، وربما عند القارئ أيضاً، هي القصة التي شكل عنوان الرواية تناصاً معها، قصة "قمل العانة" بأبعادها النفسية والجسدية والدلالية، فقد أصابت العدوى زوجته، وكان سببها الأكيد مشاركة الجنرال في حفلات اغتصاب المعتقلات الأجمل، وهكذا، وصولاً إلى تفاصيل، وربما تكون مجازية، لكنها في المحصلة تكمل الإحاطة الكلية التي يريد قولها الراوي، إذ تصير الحكاية حاملة لهذا القول:
إذا اتفقنا على أن الحكاية حاملة لما سيقوله الكاتب، فهل يمكن لهذا القول أن يكون متناً لكل الحكايات المفككة، أو خيطاً زمنياً لبناء وسرد، القول يُعنى بوضوح بالأحداث التي حصلت في سوريا، من حرب ودمار وموت واعتقال وسجون ،.إلخ، بيد أن الكاتب اتكأ على تبادل الروي وفعل الكتابة، بينه وبين المرأة التي سيكتبها وتكتب الرواية" تناوب الروي" ليتابع حكاياته عن شخوص يبدون وكأنهم عابرون بأحداث مستقلة ومنفصلة، ولكن في زمن الحرب، وهل يمكن لذا الزمن أن يجمع عدة حكايات في رواية؟ هل تكون هذه الفنتازيا من سرد وبناء، أم بـ (الـ) التعريف: فنتازيا السرد والبناء؟
لغة الرواية وشخوصها
ثمة علاقة شفافة وموحية بين شخوص الرواية ولغتها التي تصبو برقيّها وجزالتها ورشاقتها إلى نسيج خاص، يمنح لمستوياتها غبشاً تأويلياً، قد تبدو فيه لغة الشخوص متقاربة، وبمستويات واحدة، وهذا ما قد يقرّب السرد من "الكتابة الذهنية".
بيد أن الروي من كاتب الرواية بشاعريته، والشخوص بمرجعياتهم الفنية التشكيلية يمنح للرواية جماليتها اللغوية وخصوصيتها، وخاصة حين تعيش الشخوص مشهدية أمكنتهم ويعبر الراوي عن حياتهم بلغتهم المعاشة، مستخدماً كل الضمائر "هي هو أنا " بلغة ترجع لمخزون وقواميس ومجازات وتأويلات صاحبها،وبتلقائية- تبدو مدروسة- يحبك نسيجاً ساحراً مفعماً بالإيحاءات والايماءات، لغة من الموروث الثقافي للمُعبّر بها، لغة حية تنبت فيها المفردة من بيئتها فتشكل بذاتها ولذاتها فنتازيا لسردها، لغة تعبر عن فعل شخوصها كفنانين تشكيليين "وبقي ظلّه يقضم أصابعه في الليل ويستخدمها في النهار لمزج الألـوان" وتصف المكان من وحي الدمار، فدرج القبو "غابت معالمه تحت الركام، بعد أن تكسر ظهره وتخلعت أضلاعه وخرجت من بين أسنانه قضبان الحديد" ولا تتبرعم المفردة من وحي الرماد وحسب، بل من بيئة الشخصيات وثقافتهم أيضاً، فالبناية التي كانت مكسوة برخام أبيض تمزقت شققها كما تتمزق لوحة فنية، وتراكمت أمام مدخلها، مثل كومة من قشور اللوز، ولغة فلسفية وجودية تثير أسئلة القارئ بريبة مفعمة بالتصورات "الجسد عندما تمتطيه العاطفة، يتحول إلى زجاج مخاتل لا بد لك من تحطيمه، كي ترى الروح البشرية على حقيقتها"، والخلط العميق بين لغة الجسد ولغة الروح في وصف العلاقات الجنسية الحميمية من جهة، "كان ينحتني كل مرة بأصابعه، يرسمني بعرقه ومائه" وفي وصف حوارات الروح مع الجسد الطالب للموت هرباً من التعذيب في السجون من جهة ثانية.
ومع الجرأة العالية فيما تقوله حكايات الرواية، إلا أن خصوصية لغتها ليست في جماليتها وإيحائها وحسب، بل في دقتها من حيث حياديتها، ومن حيث فجاجتها
ومع الجرأة العالية فيما تقوله حكايات الرواية، إلا أن خصوصية لغتها ليست في جماليتها وإيحائها وحسب، بل في دقتها من حيث حياديتها، ومن حيث فجاجتها، شخوص الرواية تحكي عن دواخلها واتجاهاتها ومعاناتها دون تدخل مباشر من الكاتب، ودون توصيفات دينية أو طائفية أو حتى مناطقية، كل الأفكار والأيديولوجيات تعبر بتلقائية أصحابها دون تقريرية أو مباشرة، كلمة عابرة موحية تكفي في أغلب الأحيان.
ومع أن الموت نهاية أغلب شخصيات الرواية، وثمة شخصيات عابرة رغم وجودها العائلي كأم ميساء وأولاد الجنرال، يحاول الكاتب غسان الجباعي أن ينحت شخوصه بدقة، راصداً تطورها المتسارع أحياناً والبطيء أحياناً أخرى، وينجح بوضوح في رصده لشخصية فرج من الطفولة في السجون إلى قبو داريا، مضيفاً بعض الجديد لأدب السجون، وكذلك الوضع النفسي المرضي وتداعياته عند جفان رغم سرعة تطور هاتين الشخصيتين، وينجح أيضاً ببناء شخصية الجنرال وتطورها، وكذلك ميساء، لكن لم تكن شخصية الأب منطقية، لا من حيث ترددها وتبدلها وتطورها، ولا من حيث نهايتها بالانتحار، وإذا حاولنا أن نعطي للشخصيات بعداً رمزياً، فإن إسقاطها على الواقع "نتائج الأحداث في سوريا" يوحي لنا بأن ثمة مبالغة في شخصية الجنرال ومرضه النفسي وحالات سكره وهذيانه وهو على رأس عمله، ومن ثم موته الغامض، والأب مدرس اللغة العربية الشخصية اليسارية الصادقة والحازمة، والمحاربة من قبل الفاسدين تكون نهايته التردد في مبدئيته، والمبدأ لا يتجزأ، ومشاركته في تغيير ملامح الأمكنة والتعهدات والتجارة،. ومن ثم نهايته الانتحار!
أما شخصية هند، فإن الكاتب يحاول في هذه الأجواء التضليلية و"الكذب اللذيذ" أن يسأل عنها أسئلة القارئ ذاتها، طهران أم هند: هل هي ميساء زوجة الجنرال؟ وهل ربط قنوات فالوب يؤدي لسرطان الثدي، وكيف وحيدة لأهلها ثم يصير عندها أخت وأخ شهيد، لنجد أن الكاتب أرادها أن تكون هكذا: فهي مرتبكة ومربكة، متناقضة متشظية جميلة بثدي واحد وقوية، فنانة تشكيلية وكاتبة، هي عدة شخصيات بين الحلم والواقع والحقيقة والوهم، وإذا كانت الرواية بفنتازيا من السرد والبناء، فهي أيضاً بفنتازيا من اللغة ومن شخصية هند.
غسان الجباعي
كاتب ومخرج مسرحي، حاصل على ماجستير في الإخراج عام 1981، درس مادة التمثيل والإخراج والمختبر المسرحي في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، كتب عدداً من المسلسلات الدرامية للتلفزيون، وأخرج عدداً من الأعمال للمسرح القومي والفلسطيني. صدرت له عدة أعمال قصصية ومسرحية وروائية وفكرية، مثل أصابع الموز، والثقافة والاستبداد، والفن والثورة السورية، والوحل، ورغوة الكلام، وقهوة الجنرال. وشارك في كتابة بعض الأفلام السينمائية، مثل: الطحين الأسود، وفوق الرمل تحت الشمس. نال جائزة ربيع المسرح في المغرب عام 1993عن عرض مسرحية" الشقيقة"، وجائزة المزرعة عن رواية "قهوة الجنرال" 2014.