أما الخبز فكان له حكاية أخرى. كان مخبز السلام يقع في الطرف الشرقي من شارع باب هود، متوسطا ما بين بائع الحليب واللحام. وكما هي الحال الآن، كان الحصول على الخبز في تلك الأيام مغامرة كبرى، فعلى الشبّاك الصغير يتكوّم عشرات الأشخاص، يريدون رطلا من الخبز. وكما تختلف الأوقية الحمصية عن أختها في كلّ أنحاء سوريا، يختلف الرطل أيضا. فالرطل الحمصي ثلاثة كيلوغرامات، بينما هو في كل البلاد السورية كيلوان ونصف الكيلو فحسب.
كانت مغامرة الدخول بين الفتية الكبار والرجال المتزاحمين على شبّاك المخبز همّا يوميا يعانيه الصغير. وفي كلّ يوم، يذهب فيه إلى المخبز، كان يحلو له أن يتخيّل أنه سيجد الشبّاك خاليا وأنه سيشتري الخبز في يسر وسهولة، ولكنّ ذلك لم يحدث تقريبا أبدا. وفي كثير من الحالات كان الزحام يضغط عليه، فيجد نفسه بجسده الضئيل وكأنه في قاع بئر من الرجال طوال القامة الذين يكادون يهرسون عظامه. وفي مرّة وجد نفسه وسط حشد من الأشخاص طوال القائمة، وقد نظر إلى الأعلى فلم يرَ ضوء النهار أبدا، وأيقن أنه سيموت من الاختناق، فصرخ بأعلى صوته، وصار يبكي بصوت عال، فرقعه أحد الرجال من حوله من قاع البئر إلى حافته ليتنفس بعض الهواء. ورآه أحد صاحبَيْ المخبز، عبد السلام الجبولي، الذي كان يبيع الخبز في تلك اللحظة – ونادرا ما كان يفعل – فسأله ابن من هو، وحين عرف، أدخله داخل المخبز وأعطاه ما يريد من الخبز. وكانت تلك آخر لحظات معاناته مع الخبز. كان عبد السلام أحد معارف الأب، وصار يسمح للصغير في كلّ يوم أن يدخل إلى الداخل ليأخذ خبزه.
في الداخل، شهد الصغير عالما كاملا من المغامرة والإثارة، وتعرّف إلى خطوات صنع الرغيف الذي يتناول واحدا منه ثلاث مرّات يوميا. ورأى كيف تعجن الآلات الضخمة العجين، وكيف يتمّ تقطيعه كرات صغيرة، تمدّ على آلة أخرى ليصبح رقائق، يأخذها فنّان حقيقي فينقّلها بين راحتي يديه لتغدو أوسع وأرقّ، ثم يعطيها إلى الخبّاز الذي كان يدخلها الفرن. وحينها يقف الصغير مشدوها وهو يرقب الرغيف المنبسط كورقة بيضاء، كيف ينتفخ شيئا فشيئا ويسمرّ، حتى يغدو كرّة محمرّة وشهية. بعد سنوات، حين سيغدو ماركسيا لينينا، وحين سيقرأ الصبي قصة مكسيم غوري الشهيرة "ستّة وعشرون رجلا وفتاة" التي تحكي عن عمال فرن وصبية صغيرة كانت تزورهم، كان يحلو له أن يتذكّر كيف كان هو نفسه واحدا من هؤلاء العمّال. وفي يوم وجد الصغير نفسه وراء الميزان، يساعد بائع الخبز. ثمّ راح البائع يتخلّى له عن مكانه ويدخل إلى الداخل ليساعد العمّال الآخرين في العجن والرقّ والخبز، ويدَا الصغير تعملان كمكوك صغير بين الخبز والميزان، يعطي الخبز للزبائن ويضع النقود في درج خشبي صغير كان يختبأ تحت الميزان. وفي الغرفة الداخلية كان صاحب المخبز يقدّم لأصدقائه القهوة المرّة التي كان يحضّرها بنفسه، وفي أحايين كثيرة، كان يقدّم فنجانا للصغير، فيشعر بالزهو لمعاملته معاملة الكبار، ويرشف القهوة السوداء من الفنجان الصغير الذي لا أذن له، ويبلعها بصعوبة لأنه لم يكن يألف طعمها المرّ. وكانت مكافأة الصغير أرغفة محمرّة على الوجهين وشهية، يعود بها إلى البيت.
أما القهوة فكان يشتريها من دكان فوزي الأتاسي، في شارع شكري القوتلي بجانب حلويات الناطور الشهيرة. كان الأتاسي رجلا من عهد سابق، حافظ على ارتداء القنباز، ولم يكن يبيع سوى القهوة. وبينما كانت أوقية القهوة في أفضل محامص المدينة بليرة وتسعين قرشا، كان الأتاسي يبيعها بليرتين اثنتين، ولكن أهل الصبي ما كانوا يستبدلون بقهوته أي قهوة أخرى. وكان الصبي يسمع الأب يقول إن الأتاسي كان صاحب مزاج، وإنه يبيع القهوة لأنه يحبها. والحقيقة أنه لم يكن يربح كثيرا من تجارته، ولو أنه باع دكانه، كما كان الأب يؤكّد، لعاش من ثمنها هو وأولاده وولاد أولاده بدعة ورفاه. كانت الأم تعطي الصغير ليرة ليشتري بها نصف أوقية من البن، فيضع الصغير الليرة في جيبه، ويسير خارجا من شارع التلّة محاذيا السرايا، حتى يصل إلى الساعة الجديدة، فيلهو قليلا في الساحة الصغيرة التي تحيط بها، قبل أن ينعطف شرقا باتجاه شارع القوتلي، وقبل أن يصل إلى دكان الأتاسي، كان يمرّ أمام زقاق مسقوف قصير ومرصوف بالحجارة، كان يثير عنده أكثر الخيالات رعبا. كان اسم الزقاق "زابوق الخمّارات"، وهو عبارة عن عبّارة تصل ما بين شارع القوتلي وسوق الهال الحمصي القديم، وعلى جانبي الزقاق القصير الذي لا يتجاوز المئة متر، ازدحمت دكاكين صغيرة تبيع الخمر وتقدمها للزبائن، بأسعار رخيصة، ما جذب إليها أفقر السكيرين الحماصنة.
عبور زابوق الخمّارات ولّد لدى الصبي رغبة أخرى في تحدّ آخر. لقد كانت المقبرة تشكّل للصبي خوفا مقيما، وكان غالبا ما يحاول تجنّب المرور قرب سورها
كان مجرّد المرور قرب فوهة الزقاق يثير لدى الصغير رعبا شديدا. لذلك، حين ذات يوم تباهى أحد رفاقه بالمدرسة أمام ثلّة من التلامذة في الصف السادس، بأنه مرّ قبل يومين من الزقاق، لم يصدّقه الصغير في البداية، ولكنه حين أقسم صاحبه له أنه صادق، ذهل الأولاد، وصاروا – والصبي بينهم – يكنّون له احتراما كبيرا. وراحت فكرة العبور في الزقاق تداعب خيال الصغير، وأخذ يحاول إقناع نفسه أنه يستطيع فعل ذلك إن كان صاحبه قد فعله. لم يكن يخادع نفسه، فقد كان يعرف جيدا أنه ليس شجاعا، ولكن ألق الفكرة كان أكبر من جبنه. وفي أحد العصاري الخريفية المنعشة، وقد أرسلته الأم لشراء نصف أوقية بنّ أخرى، سار كالمسلوب، حتى وصل دخل الزقاق، فوقف لحظة، قبل أن يندفع إلى الشارع، فيعبره بسرعة، دون أن يلتفت بسرة أو يمنة. وحين انفتح الزقاق المعتم المسقوف على الفسحة التي تؤدي إلى سوق الهال، دون أن يمسّه ضرّ، شعر بالزهو، وكان لا بدّ أن يعود من جديد إلى شارع القوتلي، فعبر الزقاق من جديد، متمهّلا هذه المرّة، ونظر إلى إحدى الخمّارات، فرأى رجالا يشربون العرق دون أي مازة ويدخنون فتغطي الدكان الصغيرة غيمة كثيفة من دخان سجائرهم، ويعلو صخبهم، فكأنهم يتحدثون جميعا في وقت واحد دون أن يسمع أحدهم لما يقوله آخر. وأمام خمّارة أخرى، أقعى رجل آخر القرفصاء، وراح يقضم سندويشة فلافل، ويغب بين اللقمة والأخرى العرق الأغبش من بطحة وضعها في جيب سترته. وخرج الصغير من جديد إلى النور من جديد، وكان أوّل ما فكّر فيه أنه سيخبر رفاقه في اليوم التالي بمغامرته، ولكنه سرعان ما عدل عن الفكرة، وكأنه أحس أن مشاركته المغامرةَ مع آخرين ستقلّل من توهّجها في داخليه.
عبور زابوق الخمّارات ولّد لدى الصبي رغبة أخرى في تحدّ آخر. لقد كانت المقبرة تشكّل للصبي خوفا مقيما، وكان غالبا ما يحاول تجنّب المرور قرب سورها. وعبور المقبرة كان أيضا موضوعا أيضا تبارى حول أولاد الصفّ السادس كثيرا. وكان الصبي يعلم أن معظم ادعاءات الأولاد كانت خيالا محضا، ولكنه كان يعرف يقينا أن اثنين من رفاقه كانا يعبران المقبرة كلّ يوم في الطريق إلى المدرسة والعودة منها، لأن ذلك كان يوفّر عليهما اتخاذ طريق أطول بنحو عشر دقائق، كانا يفضلان اغتنامها للقاء في الفراش. ومرّة أخرى، راحت فكرة العبور من المقبرة التي تقع أول طريق الشام تلحّ عليه. كان المرور بها يوفّر ثلث الطريق إلى بيت جدّته في كرم الشامي. ولكن ليس اختصار الوقت ما كان يريده، وإنما مواجهة الخوف ومواجهة سؤال الموت.
كان لا يزال يتذكر زيارته الأولى إلى المقبرة، حين رافق جنازة أحد جيرانهم قبل ثلاث سنوات. يومها، دعاه صديقه ظهيرة لمرافقة الجنازة إلى المقبرة. تناوبه شعوران، أولهما الخوف والرهبة من الموت والمقبرة، وثانيهما الاستطلاع واستكشاف المجهول. وبقي بدون قرار حتى خرجت الجنازة من البيت، فوجد نفسه يسير وراءها مع ظهيرة ونورا وآخرين بدون إرادة، يقرقع بحذائه على حجارة الطريق، مسوقا كالمسلوب، مخلّفا وراءه النساء وعويلهن على الميت، وقد تقدّم الجنازة الشيخ سميح، بهلول حمص الذي كان لا يترك جنازة دون أن يسير في مقدمتها حاملا غصنا كبيرا من النخيل، بذقنه الخفيفة وصوته العريض المريع. كانت تلك أول مرّة يدخل الصبي فيها مقبرة، أي مقبرة، وتملكه شعور قوي بالخوف والرهبة، ترافق مع شعور آخر بالسكينة والراحة. وراقه أن يتغلّب شعور السكينة على الإحساس بالخوف. كان الصمت المحيط غريبا، يترك في الآذان صدىً غير مسموع. وبدأ الرجال يتمتمون بصوت عال سورة ياسين، ثمّ رأى الصبي الرجال وهم يُنزلون الجثمان بكفنه الأبيض، قبل أن يجلس رجل عند رأس الميت، ويذكّره بما يجب أن يقول للملَكَين حين يأتيانه بعد قليل.
ولكن ذلك حدث برفقة رجال كثيرين وكان بصحبة ظهيرة وآخرين من أولاد الحارة. كان ذلك شيئا وأن يعبر المقبرة وحيدا شيء آخر. وقد ظلّ أياما يحوم حول سور المقبرة، ويقترب من بابها، ثمّ يرتدّ عنه، ثم ينتابه نفس الشعور بالقهر ويلوم خوفه الزائد. ولذلك، سيعجز حتى اللحظة عن تفسير كيف أنه في صبيحة أحد الأيام، نهض باكرا، لأن الحكومة كانت قد عدّلت التوقيت من الصيفي إلى الشتوي، فكسب ساعة من الزمن، وحين أفاق في السابعة، كان الوقت في الحقيقة السادسة صباحا. وجد أمه في المطبخ تضع إبريق الشاي على النار. غسل وجهه ولبس ملابسه. وقالت له أمه:
"أخّروا الساعة اليوم. لسه بكير."
"معليش بيكونوا رفقاتي إجوا، منلعب شوي."
شرب شايه وأكل سندويشة لبنة بالنعنع اليابس ثم خرج. ولم ييمّم شطر المدرسة، بل مضى صوب طريق الشام، وبدون تلكؤ، دخل من الباب الخلفي للمقبرة، وسار في البداية بسرعة، يريد اجتياز المكان بسرعة، كما فعل سابق في زقاق الخمّارات، ولكن راح تباطؤ في السير قليلا، قليلا، إلى أن بات يمشي الهوينى، بين القبور المتراكبِ بعضُها فوق بعض. كان صباحا تشرينيا باردا، وأحسّ بنسيم الشتاء المبكر يداعب وجهه وخصلات شعره، فسكنه شعور غريب بالراحة، فراح قرأ أسماء الموتى على شاهدات القبور، ولم يكن يحمل ساعة (كانت أول ساعة حملها إثر نجاحه في البكالوريا) فانتبه فجأة وكأنه صحا من حلم إلى أنه قد تأخر عن مدرسته، فطار مسرعا، وركض يحمل حقيبته على كتفه، حتى دلف من الباب لحظة واحدة قبل أن يغلق آذن المدرسة النحيل الباب، فانسلّ إلى الصفّ، وشعر وكأن الجميع ينظر إليه وقد أدرك مغامرته، وقلبه كان لا يزال يخفق من الركض ومن الإثارة ومن والنجاح.