وكأني بالوسيط الدولي، السيد ستافان ديمستورا، يقضم أظافره بتوترٍ بادٍ وصبرٍ نافد، مترقباً – مثل أي مشاهد- ما ستؤول إليه الأوضاع في إدلب، بعد درعا، إذ إنَّ الرجل غُيِّبَ بما يكفي عن المشهد، وآن له أن يعود إلى الواجهة مجدداً، ليعلن بابتسامته الصفراء عن قرب توصل الأطراف لحل سياسي ينهي معاناة السوريين!
عاند ديمستورا مهمته أكثر مما عاند السوريون أنفسهم، وصبر أكثر مما صبروا، إنما بلا أي خسائر، منتظراً اللحظة التي يضع فيها "المنديل" ويكتب الكتاب معلناً عقد قران "النظام وما تبقّى من المعارضة" في زواج يشرعنه دستور جديد يحفظ حق الطرفين، ويهدر حقوق الشعب كلها، بمباركة "المعازيم" الذين سيمثلون المجتمع الدولي التائق لهذه اللحظة التاريخية، فهذا العقد سينهي معاناتهم أيضاً ويفتح أبواب الهجرة العكسية الطوعية والإجبارية إلى "حضن الوطن".
ديمستورا الذي جاء عام 2014 على أنقاض سلفيه المستقيلين "كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي"،
المهام الصعبة والقذرة، فقد أوكلها السيد ديمستورا لروسيا وبعض الدول العربية "الحليفة للثورة السورية" والتي قادت هي نفسها الثورات المضادة في بلدان الربيع العربي.
ساهم بشكل رئيس في تثبيط محور جنيف الأممي وحرف مساره كما تشتهي رياح روسيا باتجاه "أستانة" ومن ثم "سوتشي"، لينتهي به المطاف "رئيساً" للجنة الدستور التي انبثقت عن مؤتمر سوتشي، معلناً وفاة مطلب "الانتقال السياسي" الذي مات السوريون لأجله لا لأجل سواه.
أما المهام الصعبة والقذرة، فقد أوكلها السيد ديمستورا لروسيا وبعض الدول العربية "الحليفة للثورة السورية" والتي قادت هي نفسها الثورات المضادة في بلدان الربيع العربي، فبعدما يئس القوم من رئيس هيئة المفاوضات السابق، رياض حجاب، وفريقه، دعت المملكة العربية السعودية إلى مؤتمر "الرياض2" الذي تمخض عن انتخاب نصر الحريري رئيساً جديداً لهيئة التفاوض المعارضة، وقد أبدى الرجل ليناً لم يكن يتوقعه أحد، فأدخل في صفوف هيئته كل معارضات النظام المصنَّعة، حتى غدت أشبه بـ"جبهة وطنية تقدمية" جديدة!.
وفي عهد هيئة الحريري، تمت التصفيات الأكبر للثورة ومراكز قوتها، من غوطة دمشق إلى ريف حمص الشمالي، وصولاً لمهد الثورة والحريري، في درعا.. فما كان من الهيئة (التي تمثل الثورة السورية كطرف وحيد في المفاوضات) إلا أن ردت بإرسال لائحة بأسماء أعضائها المقترحين للجنة ديمستورا الدستورية، منحازة للوهم الذي بدأ تسويقه عام 2016 والقائل بقبول الحل الروسي مقابل إخراج إيران من سوريا.
نصر الحريري، كتب في السادس من حزيران الفائت، بعد مجازر الغوطة وحمص وإدلب، وجرائم العدوان الروسي التي مكّنت النظام في تلك المناطق: "إن السلوك الروسي الجديد من سماح للضغط على إيران والتحركات التي تقوم بها من أجل تقليص النفوذ الإيراني على الأرض في سوريا شيء مهم وإيجابي يمكن البناء عليه ويجب تعزيزه بمزيد من الخطوات التي تختصر الطريق للحل السياسي الرامي لتحقيق الانتقال في سوريا"!!.
وعلى ماذا يمكن أن يفاوض المنهزمون؟.. ولماذا سيتخلى المنتصر عن بعض مكتسباته؟ طالما حظي بمباركة العالم ومبعوث العالم وممثل الثورة أمام العالم؟!..
وجهاء وتجار وفقهاء دمشق الذين خالفوا الحاكم والعسكر وآثروا التسليم لتيمورلنك عندما حاصرها عام 1400- 1401 ميلادي،
المفاوضون الجانحون للاستسلام، تدلوا من سور قلعة دمشق بعدما منعهم الجنود من الخروج عبر الباب الكبير.. ليخرجوا بعدها من الباب الصغير للتاريخ، مذمومين مدحورين.
مطمئنين لإسلامه المزعوم وعهده المصون، واجهوا القتل والحرق بعد أخذ أموالهم، ومن ثم واجهت دمشق واحدة من أسوأ حقباتها، إذ حُرقت ونُهبت وانتُهكت حرمات أهلها.
تقول كتب التاريخ ورواياته، إن هؤلاء المفاوضين الجانحين للاستسلام، تدلوا من سور قلعة دمشق بعدما منعهم الجنود من الخروج عبر الباب الكبير.. ليخرجوا بعدها من الباب الصغير للتاريخ، مذمومين مدحورين، أما الوسيط الدولي – آنذاك- (ابن خلدون) فقد نجا بعدما رسم لتيمورلنك خرائط شمال إفريقيا التي سيغزوها تباعاً، وفق ما يقول مؤرخون.. وربما فعل ذلك سعياً لإنقاذ دمشق وأهلها كما يقول فريق آخر من المؤرخين، إلا أن دمشق لم تنجُ.. ولا شعبها الذي فاوضوا عليه نجا..
فماذا يكون حال دمشق اليوم، وعلى أبوابها غازٍ أكثر توحشاً من تيمورلنك، ووسيط ومفاوض أقل بكثير من ابن خلدون؟!..