أحيت امرأة نحيلة ذات شعر أجعد وعينين سوداوين الفظائع التي جرت في سوريا داخل قاعة المحكمة بألمانيا، إذ خلال شهادتها التي أدلت بها أمام المحكمة الإقليمية العليا بكوبلنز، وصفت تلك الصحفية البالغة من العمر اليوم 38 عاماً، كيف ألقي القبض عليها خلال الأيام الأولى للثورة على نظام بشار الأسد، وذلك في الثاني من أيار لعام 2011، وهي تقوم بتصوير مظاهرة نسائية في دمشق. وبعدما جرى سحلها من مكان إلى مكان، أودعت تلك المرأة التي سنطلق عليها "ل" في سجن الخطيب بنهاية الأمر، وهو سجن تابع للفرع 251. وتخبرنا أنها أجبرت على الوقوف لساعات أمام حائط في أحد الممرات، وبأنها كانت تتعرض للضرب على يد الحراس عند مرورهم بالقرب منها، وتعلق على ذلك بقولها: "كان الأمر عادياً هناك، إذ تتم الأمور دون أي أوامر". وتذكر أن الحراس كانوا يصفونها بالعاهرة ويهددونها بالاغتصاب.
لعل المفارقة التي كشفت عنها بعض إجاباتها ساعدتها على خلق مسافة بين نفسها وبين الخوف الذي شعرت به في تلك الفترة. إذ عندما سئلت لماذا تعرضت للصعق بالكهرباء، أجابت وهي تضحك ضحكة جوفاء: "لست أدري، لكني شعرت بأن لديهم رغبة بأن يجربوا ذلك علي". أطلق سراح "ل" في نهاية الأمر، لكنها عادت للخروج في المظاهرات، فاعتقلت من جديد بعد سنة من اعتقالها الأول. وخلال ثالث أيامها في المعتقل التقت بالرجل الذي يجلس الآن في قفص الاتهام بمحكمة كوبلنز، على بعد بضعة أمتار منها. إنه أنور رسلان، رئيس قسم التحقيقات بفرع الخطيب التابع لفرع أمن الدولة رقم 251.
تدعي تلك المرأة بأن أنور أمر الحراس بأن يرفعوا العصابة عن عينيها، ثم طلب منها أن تجلس. بعد ذلك قدموا لها القهوة، فرفضتها بدافع الخوف. وقبل أن يعيدوها إلى السجن من جديد ذكرت ما يلي: "أخبرني بأني لا أستطيع أن أصدق أن الجيش نزل إلى الشوارع ليقتل الناس، فهز برأسه وطلب من الضابط أن يعيدني إلى الزنزانة". وتخبرنا بأنه سمح لها أن تدخن لفافة من التبغ في الممر بعدما طلبت منه ذلك. وبعدما أطلق سراح "ل" من جديد، سارعت على الفور للهروب إلى العاصمة الأردنية عمان.
بلا اعتذار، وبلا امتنان
في عمان، أخبرها صديق لها فر هو الآخر من دمشق في أواخر 2013 وأوائل 2014 بأن أنور رسلان هرب وبأنه يعيش في عمان، وسألها إن كان يهمها أن تلتقي به، وعن ذلك قالت: "كان لدي فضول لرؤيته مرة أخرى، إذ إنه لوضع غريب أن تجلس بجانب شخص اعتقلك وتحتسي القهوة معه فجأة". ولكن، لماذا رغب أنور رسلان برؤيتها؟ ذكرت "ل" بأنها لا تعرف لماذا، ولكن: "بدا أنه يفكر بأن تبرؤه من النظام وانخراطه في نشاط فعلي للمعارضة كانا نوعاً من الإبراء لذمته مما ارتكبه من أفعال في السابق. لكنه لم يعتذر عنها".
يتذكر أنور رسلان ذلك اللقاء، بالرغم من اختلاف ما توقعه منه، حيث يقول: "اعتقدت أنها تريد أن تشكرني" ويقصد على تعامله الودي معها، وقد كتب ذلك في تصريح خطي قدمه للمحكمة الألمانية، لكنه أضاف بأنها لم تعبر عن أي امتنان.
وفي يوم الخميس الماضي، كان من المقرر "لأول محاكمة جنائية ضد أفراد من نظام الأسد لارتكابهم جرائم ضد الإنسانية" أن تختتم في كوبلنز، إذ ورد ذلك الوصف على الأقل على لسان رئيس مكتب المدعي العام الاتحادي في محاكمة أنور رسلان ومسؤول أدنى رتبة في أمن الدولة بسوريا. إذ على مدار أكثر من مئة يوم من التقاضي منذ نيسان 2020، تم البحث في الادعاءات ضد المدعى عليهما، إلا أن القضية عملت عمل لائحة اتهام بحق ذلك النظام القمعي المجرم بأكمله الذي تأسس في ظل حكم الأسد.
المتهم أنور رسلان في قفص الاتهام بمحكمة كوبلنز
يلتزم مبدأ الولاية القضائية الشاملة بأنه بإمكان أي دولة أن تقيم دعوى بخصوص الجرائم الدولية، حتى ولو لم تقع تلك الجرائم داخل أراضيها، ولم يتضرر بسببها أي من مواطنيها. ولذلك، أقر البرلمان الألماني قانوناً يبيح قيام هذه الدعوى في البلاد في عام 2020.
دعوى غير واضحة
توقع مراقبون أن يحكم على أنور رسلان بالسجن لفترة طويلة، قد تصل إلى السجن المؤبد، ولا يعود ذلك لأنه ثبت بأنه قام بتعذيب وقتل الناس فعلاً وحسب، بل لأن تلك الأمور حدثت تحت مسؤوليته، حيث ورد في لائحة الاتهام الموجهة لأنور رسلان ما يلي: "إن دوره في الجريمة يقوم على منصبه ضمن التسلسل الهرمي للفرع 251". إلا أن المتهم أنكر أن يكون له أي مسؤولية فعلية في الفرع بعد منتصف عام 2011. كما أن ألمانيا قبلت طلب لجوئه في عام 2014 لاعتبارات إنسانية، بالرغم من أنه لم يخف عمله السابق عن السلطات.
إن أعظم إنجاز حققته هذه المحاكمة هي أنها سلطت الضوء على جرائم شنيعة قام بها جهاز المخابرات في سوريا، والذي لم يقم بقمع الناس وحسب منذ عام 2012، بل أيضاً أخذ يبيد المعارضين حرفياً في سوريا. ولذلك سلطت محكمة كوبلينز الضوء على حالات الاختفاء القسري التي طالت ما لا يقل عن 102 شخص ووثقت أكثر من 14 ألف حالة وفاة تحت التعذيب. وفي ذلك فوائد جمة.
ومع ذلك بقي السؤال -الذي لم يتضح بعد- يدور حول من الذي تجري محاكمته هنا. إذ بخلاف المحاكم الخاصة التي تقيمها الأمم المتحدة، مثل المحكمة الخاصة برواندا، تنظر هذه المحكمة الألمانية في جرائم ارتكبها نظام مايزال في السلطة. وبذلك يصبح الأشخاص الوحيدون الذين بوسع السلطة القضائية الوصول إليهم هم هؤلاء الذين أداروا ظهرهم للنظام وتركوه وهربوا.
بين الجحيم والحرية
خاطر العميد أنور رسلان بحياته عندما فر من سوريا بنهاية عام 2012. وينطبق الوضع نفسه على المدعى عليه الآخر، إياد الغريب، وهو رقيب في الجيش تم فصل محاكمته في نهاية المطاف بعدما حكمت عليه المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف وذلك في شباط 2021 لمساعدته في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وقد تقدم إياد الغريب بطعن في الحكم، لذا مايزال القرار معلقاً في تلك القضية.
عندما هرب أنور رسلان في عام 2012، رحبت المعارضة السورية في الخارج بانشقاقه واعتبرته مكسباً لها، حيث فضلت أن تنظر إليه على أنه منشق، إذ لم تكن أفعاله التي قام بها في الماضي أولوية بالنسبة لها، بما أنه كلما زاد عدد من غيروا ولاءاتهم من الضباط من ذوي الرتب الرفيعة، باتت عملية إسقاط الديكتاتورية أسرع، وذلك وفقاً لحسابات المعارضة في ذلك الحين. بل حتى الشاهدة "ل" التي تعيش اليوم في باريس، تخبرنا بأنها شعرت بأمل كبير خلال لقائها بأنور رسلان في عمان، حيث قالت: "لم تدعم القوى العظمى الثوار، ولهذا أصبح كل منشق بمثابة مصدر قوة".
كان سجن الخطيب الذي ترأسه أنور رسلان بشكل رسمي حتى أيلول 2012، منبعاً للرعب، فهو يشبه المطهر أو الأعراف على طريق الاختفاء، أو ربما العودة إلى الحرية. إذ يدير أمن الدولة الفرع 251 وتقع الأبنية ذات الطوابق المتعددة التي يديرها هذا الفرع في قلب منطقة سكنية في حي الخطيب بدمشق، ومن هنا جاء اسم الفرع، الذي يقع مشفى قبالته، وتحيط به المحال التجارية من كل الجوانب، إلى جانب صيدلية ومتنزه. إلا أن غالبية السجناء الذين كانوا ينقلون إليه بحافلات مزدحمة وهم معصوبو الأعين لم يروا شيئاً من كل ذلك.
وفي كوبلنز، أدلى الناجون بشهاداتهم حول الفترات التي أمضوها في فرع الخطيب، حيث تحدثوا عن "حفلات الترحيب" التي تتم في الباحة، والتي يقوم أثناءها الحرس بضرب القادمين الجدد من السجناء بوحشية. كما تحدثوا عن الممر الذي يفضي إلى القبو الذي تتعفن فيه أجسادهم بسبب حرمانهم من ضوء الشمس. أما التعساء منهم فيجري رميهم في زنازين انفرادية حيث يخشى كل منهم أن يفقد عقله بعد أن يقضي أياماً في عزلة كاملة عن الناس. أو يتم وضع السجناء في زنازين مشتركة مكتظة يتناوبون فيها على الجلوس والاستلقاء.
مقبرة للأحياء
يتذكر رجل سوري خمسيني كان يعمل في مخبر وجرى اعتقاله بالخطأ ما جرى معه فيقول: "وضعوني في زنزانة الموت رقم 5". حصل هذا الرجل على إقامة لاجئ رسمية في ألمانيا، لكنه يقول: "مازلت أعيش في زنزانة الموت تلك حتى اليوم، فهي أشبه بالقبر، إذ لا يوجد فيها أي ضوء أو نافذة، بل مجرد شق تحت الباب، وحوالي 130-140 شخص من حولي". وكنوع من العقاب، يقوم الحراس في بعض الأحيان بإغلاق فتحة التهوية، الأمر الذي يتسبب بحالة ذعر خلال دقائق معدودة بسبب عدم قدرة السجناء على التنفس.
إلا أن الأمر الأسوأ من الضرب والظروف الطاحنة هو تلك الصرخات التي شهد غالبية الناجين عليها أمام المحكمة الإقليمية العليا، والتي يتردد صداها في أرجاء الممرات والزنازين، ليلاً نهاراً. يصف أحد الشهود كيف كانت تلك الصرخات تختلط في بعض الأحيان مع صوت المطربة اللبنانية فيروز، التي كان الحراس يحبون أن يستمعوا لها عبر أثير المذياع، إذ قال: "اقتنعت من خلال الصرخات بأن الأمور ستنتهي بي على تلك الشاكلة أنا أيضاً". فيما يتذكر شاهد آخر ما حدث معه فيقول: "في إحدى المرات قاموا بتعذيب أحد السجناء بشكل شديد، فكانت صرخاته مدوية، لدرجة أننا صرنا نسمعها لفترة طويلة، ولكن في لحظة من اللحظات لم يعد بوسعنا سماع صوته أبداً".
ذكر أنور رسلان في وقت لاحق في ألمانيا بأن الاعتقالات الجماعية والقتل العشوائي هما ما دفعاه للهروب، ثم إنه واحد من بين حفنة ضئيلة من كبار الضباط في المخابرات الذين انشقوا وانضموا للمعارضة، في حين بقي المئات منهم في سوريا. ولكن كما أوضح رسلان مرات عديدة سواء في الالتماسات الخطية التي قدمها أو خلال عمليات الاستجواب الأولية، لم يكن لديه دافع أخلاقي بالأساس وجهه نحو الرحيل، إذ ذكر خلال جلسة تحقيق في تشرين الأول من عام 2017 لدى مكتب الشرطة الجنائية بولاية شتوتغارت عندما أدلى بشهادته في قضية أخرى، فقال: "ما الذي من المفترض أن نفعله بوصفنا محققين مع الموتى؟ إننا لا نستطيع أن نستجوبهم".
وفي مقابلة أجرتها دير شبيغل في نيسان 2013 بعمان، قدم ذلك العميد السابق رواية مفصلة حول ما تمارسه المخابرات من أعمال في الداخل، فهو على دراية بمخططهم المزدوج الذي يمارسونه بخبرة، إذ شرعوا بتشكيل جماعات إرهابية جهادية في عام 2005، حتى يستخدموها في شن حرب داخل العراق ولبنان، ومنذ عام 2011 وما تلاه، أصبحت الحرب داخل سوريا نفسها.
أي إن مشكلة العميد رسلان لم تكن مع جهاز الأمن بحد ذاته أو مع حالة القمع، بل كانت مشكلته مع حالة فقدان السيطرة التي أخذ هذا الجهاز يعاني منها، إذ لم تعجبه فكرة وجود إرهابيين حقيقيين مسلحين وكذلك فكرة "قتل حشود من المدنيين لا تربطهم أي علاقة بالمعارضة المسلحة قطعاً". وقد ذكر بأنه اتهم بانتزاع اعترافات من أشخاص ليس لديهم ما يعترفون به، ووصف ضباط الأمن بأنهم: "حولوا عمله إلى مصدر سخرية واستهزاء"، فبدا الأمر بأنه حالة رعب اختلطت بكبرياء مهني جريح.
ومن منظور حكم القانون، تعتبر كلتا الحالتين وحشيتين، إذ إن تعذيب الناس ورميهم في السجن دون محاكمة عادلة أمر لا يسمح به القانون، بصرف النظر عمن يكون هؤلاء الأشخاص. غير أن هذه المنظومة الأخلاقية التي تميز بين الظلم الحميد والظلم الشرير، تعتبر ذات المنظومة التي يشترك بها رسلان مع الكثير ممن انشقوا عن الجيش وعن الحزب الحاكم وعن أجهزة المخابرات في سوريا. إذ في تصريحاته الافتتاحية في تلك المحاكمة، ذكر رسلان بأنه استطاع أن يتماهى مع النظام القضائي ونظام الحكم في سوريا حتى عام 2011، بعد ذلك، لم يعد بوسعه أن يتماهى معه أكثر.
وهم المهنة البريئة
بخلاف معظم الضباط من ذوي الرتب الرفيعة لدى أجهزة المخابرات، لا ينتمي رسلان للطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد، لأنه مسلم سني تعود أصوله لمدينة الحولة، وتلك الأصول تعتبر غريبة على من يشغل مهنة رفيعة لدى جهاز الحكم في سوريا. وبما أن رسلان كان طموحاً ولماحاً، فقد درس الحقوق في دمشق بعد نجاحه في الثانوية، ثم تطوع لدى قوات الشرطة وأكمل دورة لتأهيل ضباط الشرطة في عام 1993، وكان الثاني على دفعته. ولذلك كان من دواعي سرور أمن الدولة الذي يتمتع بمنزلة رفيعة في البلاد أن يستقطب هذا الشاب الذي بقي يتدرج في المناصب إلى أن أصبح رئيس القسم المسؤول عن التحقيق.
ولكن عندما بدأت الثورة ضد الأسد في عام 2011، انضمت مدينته الأم، أي الحولة، للثورة في وقت مبكر، ولذلك قامت فرق الموت (الشبيحة) التابعة للأسد بارتكاب مجزرة بحق المدنيين فيها، وذلك في أيار عام 2012. وعندها وجد رسلان نفسه بين نارين، نار أقاربه في الحولة الذين أطلق زملاؤه النار عليهم، ونار رئيسه في دمشق الذي اتهمه قائلاً: "أهالي مدينتك خونة".
بشار الأسد مع الجنود في عام 2013
وهكذا تحطمت الصورة التي رسمها لنفسه ولقدرته على العمل بوصفه محققاً محترفاً، حتى داخل نظام الأسد، ولذلك قرر الهروب، وقد احتاجت تلك العملية بحسب ما ذكره لأشهر من التحضير حتى نهاية عام 2012، وذلك لأنه وضع تحت المراقبة منذ مدة طويلة حسب زعمه.
فعل ما فعله على أفضل وجه
بمجرد أن انضم رسلان لصفوف المعارضة في المنفى، أصبحت لديه رغبة بمواصلة ما كان يفعله ولكن بصورة أفضل، أي إدارة فرع مخابرات. ولكن لصالح الطرف الآخر اليوم. إلا أن فشل ذلك المشروع كان من أغرب ما روي في قاعة محكمة كوبلنز، فقد أورد تلك القصة طيار سوري سابق لدى سلاح الجو تحول إلى روائي معارض ولكن انتهت به الأمور بالسجن في الفرع الذي يديره رسلان وذلك في عام 2011، وقتها أخبره رسلان على ما يبدو بأنه يرغب بأن يصبح كاتباً هو الآخر، ولهذا كان يفضل أن يحكي له عن روايته بدلاً من أن يقوم باستجوابه والتحقيق معه.
ولقد شهد ذلك الطيار السابق بأنهما بقيا على تواصل بعد ذلك، وبأنهما غادرا البلاد معاً، وفي عام 2014، اتصل به رسلان فجأة في إحدى الليالي باسطنبول، وعن ذلك يقول الطيار: "سألني إن كان بوسعي أن آتي إلى ساحة تقسيم". وعلى منصة الشهود ذكر ذلك الطيار أن رسلان أتى إلى إسطنبول ليؤسس فرع استخبارات لصالح المعارضة السورية، إلا أن الرجل الذي نظم لذلك الاجتماع اختفى بكل بساطة، تاركاً المشاركين ليدفعوا أجور الإقامة في الفندق. يتذكر السجين السابق كيف دعا رسلان ليقيم في بيته بضعة أيام حيث قال: "كان رسلان يقف هناك وسط المطر وبيده حقيبة سفر، ويبدو عليه السخط والحزن".
نشط رسلان في المعارضة لفترة من الزمن، بل إنه سافر أيضاً إلى جنيف في عام 2014 بوصفه عضواً في وفد المعارضة لإجراء محادثات مع المبعوث الأممي الخاص من أجل سوريا، ولقد أوصى به رياض سيف وهو أحد أبرز المعارضين للنظام السوري ويعيش اليوم في المنفى ببرلين، أمام وزارة الخارجية الألمانية حتى يتم قبوله كلاجئ لاعتبارات إنسانية، وهكذا تمكن رسلان وأسرته من دخول ألمانيا بصورة قانونية بواسطة تأشيرات رسمية في عام 2014 حيث وجدوا مأوى لهم في برلين.
هل كانت حياته في خطر؟
أكد العديد من الشهود في كوبلنز أن أنور رسلان كان يشعر بالخوف على الدوام منذ هروبه، ولم يكن خوفه من انتقام ضحاياه، بقدر ما كان يخاف من زملائه السابقين، ففي شباط 2015، كتب رسلان لشرطة برلين رسالة جاء فيها: "أحس بتهديد كبير، فحياتي في خطر"، إذ كان على قناعة بأن عملاء النظام السوري يتعقبونه، وكان يخشى من الاختطاف، إذ وصف للمسؤولين في برلين المنصب الذي كان يشغله في سوريا، ولماذا يحس بالخوف من القتل لأنه خائن بنظرهم. إلا أن شكوك رسلان وهواجسه كانت بغاية الغموض لدرجة منعتهم من منحه حماية أمنية خاصة، كما لم تفتح الشرطة تحقيقاً خاصاً بأمره، إذ يبدو أن أحداً لم يكن مهتماً بماضي هذا العميد.
وهكذا لم يحدث شيء إلى أن حركت الأمور مجموعة من الرجال السوريين المسنين الذين كانوا يلتقون بشكل دوري في مقاطعة تيغيل ببرلين، حيث التقى رسلان بأحد معارفه القدامى، وهذا الأخير ساعده في التواصل مع مكتب الولاية للتحقيقات الجنائية في بادن-فورتمبيرغ حتى يشهد في تحقيق فتح بحق أحد الضباط السوريين. فخاطبت شرطة شتوتغارت رسلان لكنها قررت بأنه ليس لديه سوى القليل ليقدمه في تلك القضية، بيد أن رسلان استغل تلك المناسبة ليتحدث مطولاً عن ماضيه، وعن العنف الذي يمارس في أثناء عمليات الاستجواب وعن عمليات القتل. إلا أن ذلك استرعى اهتمام مكتب الشرطة الجنائية في الولاية فقام بتحويل المعلومات إلى مكتب الشرطة الجنائية الاتحادية في عام 2017، والذي قام بدوره بفتح تحقيق في الموضوع.
وفي الوقت الذي ألقي فيه القبض على رسلان والرقيب السابق إياد الغريب في 12 شباط 2019، لم يعد هنالك أي أمل بإسقاط ديكتاتورية الأسد خلال فترة قريبة، كما لم يعد للمنشقين أي تأثير سياسي، ولكن يمكن العثور عليهم بسهولة عبر العناوين التي سجلوها بشكل رسمي في مقاطعة بانكوف ببرلين وفي مدينة زويبروكن. إلا أن محاولات إلقاء القبض على أعضاء رفيعين سابقين أو مايزالون في خدمة نظام الأسد لكنهم يعيشون في الخارج باءت جميعها بالفشل في حالات أخرى.
المنبوذون
مايزال العميد السابق خالد الحلبي الذي ترأس فرع أمن الدولة بمدينة الرقة يعيش حراً طليقاً في فيينا بالرغم من الجهود التي بذلها المدعون العامون الأوروبيون على مدار سنين. في عام 2018، أصدر المدعون الاتحاديون في فرنسا وألمانيا مذكرة اعتقال دولية بحق جميل حسن، الذي ترأس المخابرات الجوية في يوم من الأيام. بالرغم من أن جميل حسن أتى للعلاج في لندن على الأقل مرتين في عام 2019 لوحده، دون أن يحس بأي وجل. وقبل عام على ذلك، سافر المدير السابق لرسلان، الذي أصبح اليوم أقوى رجل لدى المخابرات السورية، وهو علي مملوك، إلى إيطاليا دون أن يتعرض لأي مشكلة وأجرى حواراً مع وزير الداخلية ورئيس الاستخبارات الخارجية هناك.
وخلال محاكمة رسلان في كوبلنز، كان يهتم كثيراً بأخذ ملاحظات حول ما يجري ويطلب من مترجمه مراراً أن يساعده في كتابة الأسماء بالألمانية بشكل صحيح. وفي حال عرض خرائط أو وثائق على الجدار، كان يضع نظارته ويعاينها عن كثب. كما وجه تحية لممثلي مكتب المدعي العام الاتحادي وللمترجمين الفوريين عبر هز رأسه بحركة محسوبة بدقة. إذ يبدو كأنه يعتبر نفسه محققاً في قضيته نفسها، لذا من المستحيل أن نقدر حجم الذنب الذي يحس به وهو يصغي للشهود من ضحاياه، الذين صاغوا المعاناة التي عايشوها بكلمات ولكن بصعوبة بالغة. إلا أن رسلان لم يبد أي مشاعر وهو جالس في قفص الاتهام، إذ كان يضحك في بعض الأحيان، وفي حالات نادرة كان يهز برأسه أو ينظر للأعلى بعينين شبه مغلقتين.
المدعي العام في المحكمة الإقليمية العليا بكوبلنز
خلال محاكمة كوبلنز، استخدمت الصور المرعبة التي قدمها المصور العسكري السوري الذي يعرف باسم "قيصر" لأول مرة كأدلة، فقد طلب من ذلك المصور أن يلتقط العديد من الصور لأشخاص قتلوا على يد مختلف الأجهزة الأمنية السرية، وفي ذلك دليل على ممارستهم لكل ذلك. بعد ذلك، فر ذلك الرجل ونشر الآلاف من الصور للعلن.
في تشرين الثاني من عام 2020، عرض طبيب شرعي تلك الصور، صورة بعد صورة على أحد جدران قاعة محكمة كوبلنز، فأظهرت تلك الصور جثثاً هزيلة معظمها ذات ثغر فاغر قليلاً، مع كدمات صفراء ظهرت على الجلد، وقطعة من الورق كتب عليها الرقم ثبتت فوق جبهات كل الجثث.
أما الحالات الأخرى، مثل الاختفاء القسري الممنهج لضحايا المخابرات في مقابر جماعية، فقد ظهرت للعلن للمرة الأولى في محكمة كوبلنز. وقد دخل الرجل الذي أدلى بشهادته حول عمليات الإخفاء القسري قاعة المحكمة وهو يرتدي بزة رياضية، ومنح رقم التعريف: Z30 /17/9 وذلك لحماية هويته.
عداد الموتى
عمل Z30 /17/9 لدى هيئة دفن الموتى بدمشق حتى عام 2011، عندما كانت المخابرات تستدعيه ليقوم بنقل الجثث إلى مقابر جماعية خارج المدينة وتسجيل عدد من دفنوا ومكان دفنهم.
وقد أورد هذا الرجل في شهادته ما يلي: "بمجرد أن تفتح أبواب الشاحنات، تبدأ الرائحة الكريهة بالانتشار". وقد ذكر بأن الدماء والديدان كانت تتسرب من المواضع التي يجري تحميل الجثث منها، وغالباً ما كان من يساعدونه يستعينون بأيديهم العارية لرفع الجثث ووضعها في القبور. بعد ذلك، كان هذا الرجل يعود إلى مكتبه برفقة ضابط مخابرات، ليكتب عدد الجثث التي تم دفنها في سجل مخصص لذلك. كما كانا يكتبان أسماء وأعداد فروع المخابرات التي خرجت منها تلك الجثث. ثم يقوم هذا الرجل حسبما ذكر بإرسال نسخ لرؤسائه قبل أن يعيد السجل لمكان آمن. ويخبرنا بأنه احتفظ بسجلات على مدار ست سنوات، بمعدل أربع عمليات دفن بالأسبوع وسطياً، حيث كانت كل شاحنة تحمل ما يصل لنحو 700 جثة.
عندما صدر الحكم على المتهم الثاني إياد الغريب بالسجن أربع سنوات ونصف خلال شهر شباط الماضي، احتفى ناشطو المعارضة السورية بذلك القرار الذي أدانه حيث اعتبروه خطوة أولى تجاه إنهاء إفلات نظام الأسد من العقاب، بعدما استعان ذلك النظام بقوة غاشمة ضد شعبه على مدار عقود دون أن يحاسبه على ذلك أحد.
انقسام المعارضة حول تلك القضية
إلا أن المعارضة انقسمت حول هذه القضية بالتحديد، ليس فقط لأن إياد الغريب مجرد تابع صاحب رتبة متدنية أمضى معظم فترة خدمته لدى أمن الدولة كمدرب رياضي للمجندين الجدد ضمن المخابرات، ولا بسبب انشقاقه في مرحلة مبكرة، بل لأنه أدين بناء على تصريحات أدلى بها خلال المقابلة التي أجريت معه لاستكمال طلب اللجوء الذي تقدم به بنفسه.
استغرقت عملية هروب أسرة إياد الغريب خمس سنوات من الزمن، ففي نيسان 2018، أي بعد مرور أسبوعين على وصوله إلى ألمانيا، طرح عليه سؤال معتاد في جلسة الاستماع الخاصة بطلب لجوئه وهو: "هل كنت شاهداً على عملية إبادة أو جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو كنت ضحية أو مرتكباً لها؟"، فأجاب إياد بالإيجاب وروى ما حدث في المهمة التي كلف بها حيث قام قائده بإطلاق النار على اعتصام سلمي. كما ذكر أنه اتخذ قراره بالانشقاق منذ تلك اللحظة، لكنه لم يستطع أن يغادر على الفور، لأن ذلك لابد أن يعرض حياته وحياة أسرته للخطر، لذا، وبدلاً من أن يقوم بإطلاق النار، زعم أنه أخذ يلقي القبض على المتظاهرين الفارين، ليقوم بسوقهم إلى فرع الأمن، أي إلى الفرع الذي كان رسلان يترأسه، وكان يعلم بأنهم سيتعرضون للتعذيب هناك.
فما كان من المكتب الاتحادي للهجرة واللجوء في ألمانيا إلا أن حول ملفه للوحدة المركزية لمكافحة جرائم الحرب التابعة لمكتب الشرطة الجنائية الاتحادية، وهكذا أمضى الضباط في ذلك المكتب ثماني ساعات وهم يستجوبون إياد الغريب. بيد أنه أصر عند اعتقاله بعد ستة أشهر على ذلك أنه لابد أن يكون هنالك سوء فهم في الموضوع لأنه ليس أكثر من شاهد. إلا أن ممثلي النيابة اعتبروا إياد الغريب أحد مؤيدي الأسد الذين لا يندمون على ذلك، وقد كتبوا ذلك في الادعاء الذي قدموه.
معضلة المنشقين
إن محاسبة المنشقين من كل أصناف البشر على الجرائم التي يرتكبها نظام ديكتاتوري ما تعتبر سلاحاً ذا حدين، وذلك لأن تحويل الشهود إلى متهمين قد يصعب كثيراً عملية الوصول إلى الحقيقة. ففي محاكمة كوبلنز لوحدها، أدلى نحو 12 منشقا بشهاداتهم، وكان بينهم أمين محفوظات كان يقوم بتحويل قوائم المطلوبين إلى الحواجز الأمنية، وشاهد كان موجوداً خلال عمليات تحقيق يتخللها تعذيب، وطيار مقاتل هرب بعدما بدأ سلاح الجو بقصف البلد الذي ينتمي إليها. ولقد ساعدت تصريحات هؤلاء على حل الجرائم التي يمكن أن يكون أي من الرجلين المتهمين قد شاركا فيها.
غير أن محمد العبد الله يرى أن هؤلاء الشهود سيفكرون ملياً حول أي شيء سيكشفونه مستقبلاً، وهذا المحامي المتخصص بحقوق الإنسان والذي سبق أن اعتقل في سوريا، يشغل اليوم منصب مدير المركز السوري للعدالة والمحاسبة في واشنطن، ويخبرنا بأن منظمته نجحت إلى حد كبير بالحصول على فيديوهات مصورة لعمليات إعدام جرت في المشافي العسكرية بسوريا عبر أحد المنشقين، ويعلق على ذلك بقوله: "كنا نحدد التفاصيل... ولو استدعي ذلك الرجل للإدلاء بالشهادة، فكيف سيتعامل مع الموضوع؟" ولهذا قرر الرجل عدم المشاركة، بعدما رأى أن الرجل الذي تم تقديمه كشاهد أصبح يخضع للمحاكمة اليوم في كوبلنز" ويعلق العبد الله على ذلك بقوله: "خسرنا ذلك الشاهد بسبب هذا".
ويتابع العبد الله بأنه من الضروري للناجين أن يتمكنوا من رؤية من عذبهم في السابق وقد خضع للمحاكمة، إذ يقول: "يرى الكثير من الناشطين الحقوقيين في سوريا أن محاكمة أنور رسلان أشبه بمحاكمة نظام المخابرات بأكمله في سوريا. أجل، هذا جيد، وله رمزيته، إلا أن التعذيب لم يتوقف في سوريا، ولم تبدأ أجهزة المخابرات بإطلاق سراح السجناء... وهذه القضايا لا تردع أحداً، ولو ردعته فلابد أنه من المنشقين. ولكن لا أحد يرغب بالانشقاق اليوم، لعدم وجود ضمانات تحميهم".
المصدر: دير شبيغل