يدهش من يشاهد هذا الحس الإنساني العالي الذي يظهر في تغطيات وسائل الإعلام التابعة أو المقربة من نظام الأسد لضحايا الزلزال. المذيعون مرهفون، وكذلك الضيوف بينما الوصلات بين الفقرات تبكي الحجر. يا لشدة التأثر، إنهم يذرفون الدموع على عائلة تهدم بيتها وخدش بعض أفرادها أو قضوا نتيجة كارثة طبيعية لا حول لأحدهم ولا قوة له في ردها.
يتبادر إلى الذهن فورا.. أين كان هؤلاء حيث كانت البراميل المتفجرة تمزق جثث المدنيين وتهدم بيوتهم فوق رؤوسهم؟ ألم يشاهدوا الهياكل العظمية لآلاف الجثث التي قضت في السجون وصوّر بعضها قيصر؟ ألم تلفت نظرهم مشاهد الضحايا وهو يساقون إلى حفرة الإعدام في التضامن؟ وكيف يمكن أن نصدق أنك إنساني وعندك ضمير هنا، بينما كنت سافلا ومنحطا هناك؟
بطبيعة الحال، تقف خلف هذه البروباغندا (الدعاية الكاذبة) خطة أوسع صاغها النظام على عجل، تقضي بمحاولة استغلال كارثة الزلزال لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، وهي مشتقة من جهود سابقة تدور في فلك أن كل المصائب والمحن التي يعاني منها المواطن السوري مصدرها القوى الخارجية التي تتآمر على البلاد، وتفرض عليها عقوبات وحصارا، وتحجب عنها الموارد الطبيعية في الشرق، وأولها النفط.
سبق قائد فيلق القدس الإيراني بشار الأسد في الوصول إلى حلب، بينما تزامنت زيارة الأخير للمدينة مع وصول قائد الحشد الشعبي العراقي الذي تولى توزيع المساعدات بنفسه
ومع مرور أكثر من شهر على الكارثة، انتقل هذا "الردح الإعلامي" إلى ما سمي مرحلة التعافي من الزلزال، وتوزيع المساعدات وتعويض المنكوبين، وإعادة إعمار المناطق المتضررة، وكلها قضايا فيها أموال، يسيل لها لعاب المتنفذين في النظام، ومن معه من ميليشيات تدعمها إيران، والتي أخذت حصتها من العروض الإعلامية، حيث سبق قائد فيلق القدس الإيراني بشار الأسد في الوصول إلى حلب، بينما تزامنت زيارة الأخير للمدينة مع وصول قائد الحشد الشعبي العراقي الذي تولى توزيع المساعدات بنفسه، في استعراض يشير إلى التزاحم على النفوذ، بين النظام وحلفائه، من جهة وإلى استغلال إيران للكارثة من أجل تعزيز حضورها، وتهريب الأسلحة على بند الزلزال من جهة أخرى، وهو ما تنبهت له إسرائيل مبكرا، لكنها اختارت الهدوء في المراحل الأولى قبل أن توجه ضربتين، واحدة في كفرسوسة، وأخرى في مطار حلب، الذي خرج عن الخدمة، بعد أن استقبل العديد من الطائرات الإيرانية المحملة افتراضا بالمساعدات الإنسانية.
ووفق "اللجنة العليا للإغاثة" في حكومة النظام السوري فإن عدد الأسر المتضررة من جراء الزلزال بلغ نحو 92 ألف أسرة، إضافة إلى نحو 65 ألف منزل تضرر كليا أو جزئيا، في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.
والواقع أن هذه المبالغات في تقدير حجم الأضرار بالمنازل متعمدة من جانب النظام لهدف لا يخفى على أحد، سوى بعض مسؤولي الأمم المتحدة والمفوضية الأوروبية، الذين زودهم النظام بصور من بعض المناطق في حلب التي كان قصفها مع روسيا عام 2016 وقبل ذلك، على أنها من فعل الزلزال. ومن الواضح أن النظام لا يفوت فرصة للاستثمار في معاناة السوريين، لتحقيق المكاسب لحسابه الخاص، وهو الذي امتنع طوال سنوات عن إعادة إعمار المناطق التي دمرها بنفسه خلال السنوات العشر الماضية، سواء في حلب أو في بقية المناطق السورية، والتي لم يسمح أحيانا كثيرة لأهلها بإعادة إعمارها حتى على حسابهم الخاص، أو حتى مجرد العودة إليها، كما في مناطق جوبر وداريا وجنوبي دمشق وسواها.
إن النظام الذي استقبل نحو 300 طائرة محملة بالمساعدات، فضلا عن عشرات القوافل البرية من دول الجوار، ومن الداخل السوري، عينه على أكبر من ذلك، فهو يريد أموالا نقدية بالعملة الصعبة، بحجة معالجة آثار الزلزال، وإعادة إعمار المناطق المتضررة، أو على الأقل، إدخال المنظمات الدولية في هذا المضمار، بالشراكة مع أدواته المحلية، وفي مقدمتها منظمتا "الهلال الأحمر" و"الأمانة السورية للتنمية" اللتان تصدرتا المشهد في تسلم وتوزيع المساعدات العربية والدولية والمحلية، باعتبارهما جهتين "مستقلتين" من ضمن منظمات المجتمع المدني، رغم حقيقة أنهما تتبعان رسميا للنظام السوري، فالأولى تدار من جانب أجهزة المخابرات، كما تقول منظمات دولية مستقلة مثل "هيومن رايتس ووتش"، والثانية تديرها أسماء الأسد، زوجة رئيس النظام.
النظام الذي ينظر إلى كارثة الزلزال، بوصفها هدية من السماء، جاءت في وقتها لإسناد وضعه الاقتصادي والسياسي المتدهور
ووفق دراسة أعدتها منظمة "الشعب يطالب بالتغيير" اعتمدت على أكثر من 100 مقابلة، فإن نسبة ما تأخذه الأجهزة التابعة للنظام (مخابرات، جيش، قصر جمهوري) يصل بين 80 و 90 في المئة من إجمالي المساعدات، وعليه فإن النظام الذي ينظر إلى كارثة الزلزال، بوصفها هدية من السماء، جاءت في وقتها لإسناد وضعه الاقتصادي والسياسي المتدهور، تمكن بالفعل من جني بعض المكاسب حتى الآن، لكن من المستبعد أن يؤدي ذلك إلى إحداث تغيير جذري في وضع النظام سواء في تخبطه الداخلي، أو علاقاته الخارجية، بسبب حقيقة أنه لا يستطيع الانسلاخ عن جلده، وحالما تتراجع أجواء التعاطف مع الضحايا، وبدأ ذلك بالفعل، سيعود النظام إلى مواجهة الحقائق الراسخة: نظام ديكتاتوري يتشبث بالسلطة على أنقاض بلد وشعب، وهو غير قادر على تغيير سلوكه قيد أنملة، لأنه يرى في أي تغيير، نهايته المحتومة، وهو ما يجعل بعض المحاولات العربية للانفتاح عليه، محكومة مسبقا بالفشل.