كانت نقطة "الفندق" المطلة على مقام "سكينة" المزعوم، تعدّ أخطر نقاط المعارك في مدينة داريا بغوطة دمشق الغربية، خلال حصارها ومحاولة جيش النظام السيطرة عليها، وبما أنّ الخطر يحيط بها من كل مكان قصفاً وقنصاً وأنفاقاً، كان قلة من المقاتلين يقبلون الرباط فيها، ومن هؤلاء كان الشاب (محمد أبو الخير)، يلبس جعبته ويمسك بندقيته في الطريق الخطر ذاهباً إلى المحرس، وسط قلة الغذاء ووسائل الحياة.
لم يكن "أبو الخير" يحلم بأكثر من وطن حر سليم يعيش فيه مع أهله، كذلك لم يكن خبيراً عسكرياً أو جندياً مدرباً حينما انخرط في صفوف الثورة السورية، إنّما كان متظاهراً صغيراً تربّى في حضن الانتفاضة، وعندما ناداه الوطن مقاتلاً لم يتلكأ أبداً، ومع الأيام خاض الشاب الناشئ معارك يعجز عن خوضها كبار القادة والضباط، وهو بذلك مثل الكثير من مقاتلي مدينته التي اشتهرت بسلميتها بين المدن، لكن تلك السلمية لم تُلن من عزيمة أهلها وشراستهم في القتال.
ولكن، لم يظفر "أبو الخير" بأن يُقتل على أرض مدينته، إذ قضى، يوم الأربعاء الفائت، مع مجموعة من رفاقه بصاروخ موجّه أطلقته قوات النظام السوري واستهدف سيارة كانت تنقلهم إلى نقطة رباطهم في قرية باصوفان بمنطقة عفرين شمال غربي حلب، وتتبع هذه المجموعة إلى "فيلق الشام"، وإضافة إلى الشاب "أبو الخير" قُتل 4 آخرون من مدينة داريا، و3 مقاتلين من بلدة تفتناز شرقي إدلب.
— فيلق الشام (@ShamLegion) June 30, 2022
بندقية ومخازن فارغة
في عام 2013، انخرط محمد أبو الخير في صفوف مقاتلي كتيبة "أحفاد صلاح الدين" التي كانت ترابط في محيط "مقام سكينة" وسط داريا، في تلك المرحلة كانت المعارك على أشدها في هذه الجبهة، خاصة أن المنطقة كانت مستهدفة من عدّة أطراف، ميليشيات إيران وفي مقدّمتها ميليشيا "حزب الله" اللبناني، بالإضافة إلى عناصر "الفرقة الرابعة" و"الحرس الجمهوري" التابعين لجيش النظام السوري.
منذ اللحظات الأولى لانخراطه في الجيش السوري الحر لاقى "أبو الخير" قبولاً واسعاً من قبل رفاقه في الكتيبة، إذ إنه كان دائم البسمة طيب المعشر ولا يرضى أن يذهب للاستراحة في كثير من الأوقات، فقد اتخذ من نقطة الرباط بيتاً له.
وفي الحديث عن جبهة "مقام سكينة"، فقد شهدت هذه المنطقة حرباً لا هوادة فيها تحت الأرض وفوقها، إذ باتت مشهورة بمعارك الأنفاق شديدة الخطورة والتي قضى فيها العشرات من أبناء المدينة، بالتزامن مع مقتل العشرات من قوات النظام و"حزب الله".
على الرغم من كل الخطورة التي شهدتها المنطقة، فإنّ "أبو الخير" لم يبرح مكانه وظل صامداً أمام آلة الحرب الأسدية، متسلحاً ببارودة وجعبة فيها ستة مخازن (أربعة منها فارغة)، بسبب الحصار الشديد الذي كانت تعاني منه داريا، وانقطاع طرق الإمداد إليها، فكان للرصاصة قيمتها ولم تكن تُطلق إلا للضرورة حتى في الاشتباكات.
فقدت كتيبة "أحفاد صلاح الدين" قائدها جمال شعيب (أبو خالد)، مما أثّر على نفسية الشاب محمد أبو الخير، فقد كان متعلّقاً بقائده ويحبه، إذ إن تعامل "شعيب" مع عناصره كان أخوياً ودائماً يتقدّم صفوفهم في المعارك وحفر الأنفاق، وكذلك لم يكن لديه وسيلة نقل يتنقل بها ومع ذلك لا يستخدم سيارة الكتيبة لأغراضه الشخصية وهو ما جعل من العناصر يحبونه ويعتمدون عليه، وقد قتل "أبو خالد" في تفجير للنظام لأحد الأنفاق، خلال وجوده بداخلها.
"من دون أي استراحة"
في حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا يتحدّث حسام أبو محيي الدين - أحد القادة العسكريين في داريا - عن "أبو الخير" قائلاً: "عند هدوء جبهة مقام سكينة لمدة أشهر، أطلقنا عملية (لهيب داريا) في منطقة الجمعيات، أصرّ أبو الخير عليّ المشاركة فيها، وقد وضعته ضمن مجموعة مقاتلة، وكان من المقاتلين الأشداء في هذه المعركة وعند تثبيت نقاط الرباط في المناطق التي سيطرنا عليها التزم وثلاثة من أصدقائه في إحدى النقاط"، مضيفاً أنّ "أبو الخير لم يكن يترك هذه النقطة هو ورفاقه وظلوا مرابطين فيها دون أي استراحة لمدة أشهر".
وفي أواخر العام 2015، بدأ النظام السوري حملة عسكرية كبيرة للفصل بين مدينتي داريا والمعضمية، كان محمد أبو الخير من بين المؤازرات التي استقدمها الجيش الحر لصد تقدّم النظام في هذه المنطقة، ودارت المعارك هناك لمدة تجاوزت الشهر، قضى فيها أصدقاء "أبو الخير" وبقي وحيداً، ولطالما يردّد أنه يريد "الشهادة واللحاق بالأصدقاء"، وفقًا لـ"أبو محيي الدين".
شاهد أيضاً.. داريا بعد 5 سنوات من تهجير أهلها
يتابع "أبو محيي الدين" وصفه لـ"أبو الخير": "هذا الشاب قليل من أمثاله بالصبر والثبات والتحمل، لا يطلب شيئاً كغيره من المقاتلين، كان همّه البلد وتحريرها"، مشيراً إلى أنّ الشاب قضى حتى بعد التهجير من مدينة داريا إلى إدلب، كان لا يتردّد يوماً في الخروج إلى أي جبهة في أي منطقة، وقد شارك في معارك حماة وحلب وغيرها، خلال عامي 2016 و2017، وأصيب في معارك شرق السكة، إذ كان مشاركاً برفقة عناصر "لواء شهداء الإسلام"، وهو اللواء الذي كان يعمل في مدينة داريا وما يزال عاملاً في الشمال السوري.
في أرض إدلب
يقول القائد "أبو محيي الدين": "خلال سبع سنوات من معرفتي لأبي الخير، لم أر منه موقفاً خاطئاً، كان مثالاً للشاب الملتزم والذي يرى بأن على عاتقه حملاً كبيراً تجاه البلد"، وكما لكل قصة نهاية كانت خاتمة "أبو الخير" أن "يكتب اسمه ضمن قائمة المقاتلين من أجل سوريا، ليثبت أنه ما زال هناك شبّان تحرس البلاد من دون مقابل وإيماناً بالقضية فقط".
يُروى عن الشاب "أبو الخير" أن أقاربه دعوه للخروج إلى تركيا والعمل هناك فرفض رفضاً قاطعاً، ليقول: "هي الأرض أكلت من عمري شوي وما بتركها لتاكل عمري كله، بعدين إذا طلعت منها منشتاق لبعض".
إلى جانب الشاب محمد أبو الخير قتل أربعة آخرون من أبناء مدينة داريا، كلهم كانوا مقاتلين أو عاملين في صفوف الثورة خلال حصار داريا، وهم: (أبو عماد الخلد وأبو محمد سيد سليمان وأبو كفاح وأبو علاء محسن)، خاضوا حياة قاسية وقضوا بقية أعمارهم في هذه الثورة ومن أجلها، ورغم كل ما أصابهم في داريا من قذائف وبراميل متفجرة وغارات بالصواريخ ورصاص الاشتباكات، فإن "أرض إدلب كان لها نصيب أن تضم جثامينهم ويختلط دمهم بدماء شباب تفتناز دفاعاً عن الأرض والوطن".