تحضن حسنا بكور (75 عاماً) حفيدها، وتمسك بيديها راحتيه الصغيرتين وتحاول أن تكتم دموعها حزناً على ابنها، في حضرة تسعة من أحفادها فَقدوا لتوّهم والدهم، إثر هجوم بطائرة مسيّرة ملغّمة (انتحارية).
وتقول حسنا: "يا عيني راح وترك هالأيتام"، وتقاطعها دموع، قبل متابعة حديثها لـ موقع تلفزيون سوريا: "كان يشتغل كل يوم بيومه منشان يطعمي أولاده".
وأنهى هجوم لمسيرة ملغّمة مصدرها الميليشيات الإيرانية وقوات النظام السوري، حياة الثلاثيني جهاد عمقي على أطراف بلدته تقاد غربي حلب، وهو عامل حر مياومة في مجال الحفريات والبناء والهدم.
بعد أشهر على دخول الطائرات الملغّمة خط التصعيد في شمالي غربي سوريا، يتحدث مختصون عسكريون ومراصد، عن دخول هذا التكتيك مرحلة متقدمة، من حيث المسافة والدقة في الإصابة، إلى جانب الوصول إلى مناطق حيوية وسكنية في العمق.
ونفّذت الطائرات المسيرة الانتحارية على منطقة شمالي غربي سوريا، أكثر من 65 هجوماً منذ بداية العام الجاري، وفقاً لإحصاءات الدفاع المدني السوري لـ موقع تلفزيون سوريا، أدت إلى مقتل 3 مدنيين وإصابة 15 آخرين بينهم طفلان وسيدة.
ومع بدء انتقال الهجمات إلى العمق، تتزايد المخاوف لدى سكّان المناطق المحاذية لخطوط التّماس مع قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية، خاصةً أصحاب الأراضي الزراعية والعاملين في القطاع الزراعي، وهو تصعيد يستهدف سلة المنطقة الزراعية وأهم مواردها الاقتصادية.
تأتي المسيرات الملغّمة (الانتحارية) كسلاح إضافي يفتك بالسوريين في منطقة شمالي غربي سوريا، وسط حملة تصعيد مستمرة، منذ سنوات، يستخدم فيها النظام وحلفاؤه مختلف أنواع الأسلحة.
- "عدنا لنحفظ ماء وجهنا"
يبدو وقع الفاجعة على السيدة "حسنا" أكبر، إذ ترك لها ابنها "جهاد" 9 أطفالٍ أيتام تتراوح أعمارهم بين الـ6 أشهر و13 عاماً، تتولى إلى جانب أعمامهم مهمة تربيتهم ورعايتهم.
اضطر "جهاد" بسبب الظرف المعيشي المتدهور إلى العمل في مواقع قريبة من خطوط التّماس، الأمر الذي جعله عرضةً للاستهداف من قبل طائرة مسيرة ملغّمة مع مجموعة عمّال في 23 من شهر نيسان الجاري.
يقول عطا عمقي وهو شقيق "جهاد" لـ موقع تلفزيون سوريا إنّ شقيقه "أصيب قبل وصوله إلى القرية بـ100 متر فقط، ما أدى إلى استشهاده إثر الإصابة، بينما أصيب قريب لنا".
ويتابع: "جهاد رجل محبوب بين سكان قريتنا، وهو يعمل يوما، ويجلس في منزله بسبب قلة الفرص أياما أخرى، ويضطر للاستدانة في الأيام التي يجلس فيها بالمنزل".
عطا وشقيقه من بين العائلات التي قرّرت العودة إلى بلدة تقاد غربي حلب، رغم المسافة القريبة من خطوط التماس مع قوات النظام والتي لا تتجاوز الـ3 كيلو مترات، إلا أنها -أي العائلات- تعاني من نقص شديد في الخدمات وإهمالٍ نتيجة وقوعها على خطوط التّماس، ويعتبر الفقر سمة عامة لدى جميع تلك العائلات، بحسب "عطا".
في هذا الصدد، يقول "عطا" لـ موقع تلفزيون سوريا: "اضطررنا للعودة إلى الضيعة على خط الجبهة وتحت القصف لحفظ ماء وجهنا ولنعيش بكرامة، وحتى لا نسكن في الخيام"، مردفاً: "كل يومين.. ثلاثة، نشهد قصفاً يستهدف محيط منازلنا".
"إطالة أمد الحرب وانعدام الغذاء"
يقول منير المصطفى -نائب مدير الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)- لـ موقع تلفزيون سوريا إنّ "قوات النظام تستخدم المسيرات الانتحارية في سياسة ممنهجة لإطالة أمد الحرب وقتل المزيد من المدنيين في وقت تتراجع فيه الاستجابة الإنسانية ويزيد تغافل المجتمع الدولي عن احتياجات السوريين في شمالي غربي سوريا".
ويضيف: "استهداف البيئات المدنية والقرى والبلدات والمزارعين والمناطق الزراعية يشكل تهديداً لقوت السكان والدخل لعدد كبير من الأسر، ما يؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي، وستتأثر قدرة السكان على زراعة المحاصيل كما ستزيد هذه الهجمات من عرقلة الوصول إلى الخدمات الأساسية، ما يؤدي إلى تفاقم التحديات التي تواجهها المجتمعات المنكوبة أصلاً بسبب 13 عاماً من الحرب".
ويشير إلى أن "هذا التصعيد الخطير في التكتيكات من قبل نظام الأسد والقوات الداعمة له، يهدد حياة السكان الأبرياء ويدمر وسائل بقائهم على قيد الحياة وسبل عيشهم، بسبب الطبيعة الممنهجة لهذه الهجمات وتعمد استهداف المدنيين، في ظل ظروف إنسانية صعبة، وتراجع كبير في الاستجابة الإنسانية".
"الهجمات ضد المدنيين متعمدة"
يجد "المصطفى" في حديث لـ موقع تلفزيون سوريا أن "المسيرات تعتمد على الرؤية المباشرة وأي محاولات هي مراوغة للموت، كما أن غالب الهجمات التي تم توثيقها تتم عبر طائرات درون تتوفر فيها ميزة الرؤية من منظور الطائرة، ما يسمح للمتحكم بالطائرة مشاهدة مباشرة وقدرة على دقة الإصابة ونسبة الخطأ شبه معدومة، ما يعني أن الهجمات التي تستهدف المدنيين ممنهجة ومتعمدة".
ويختم: "إن غياب الإجراءات لمحاسبة نظام الأسد وحلفائه على جرائمهم بحق السوريين وانتهاكاتهم الخطيرة للقانون الدولي الإنساني له تداعيات كبيرة في تعزيز حالة الإفلات من العقاب، ليس على مستوى سوريا فقط، بل وحتى على المستوى الإقليمي والدولي".
"مرحلة متقدمة"
يتحدث المرصد "أبو أمين" وهو أحد كوادر "المرصد 80" العامل في منطقة شمالي غربي سوريا، عن دخول عمل المسيرات الملغّمة (الانتحارية) مرحلة متقدمة.
ويوضح أن "عملها في مراحلها الأولى بدأت بشكل تدريبي، وتوغلت بعمق 3 كيلو مترات ونصف فقط، بينما اليوم دخلت مرحلتها الثانية والتي تتسم بعدة سمات:
- توغل بعمق 10 كيلو مترات
- تحليق يتراوح من 15 إلى 17 دقيقة
- ارتفاع أقل وصل لـ 20 متراً (ما يسهم في زيادة الحمولة والوزن ودخول بعمق أكثر)
- تعديل على بطارية الطاقة للعمل في مدة أطول
- زيادة في المواد المتفجرة (C4)
- تعديل في طبيعة الحشوات بما يتناسب مع طبيعة الموقع المستهدف
ويشير "أبو أمين" في حديث لـ موقع تلفزيون سوريا إلى أن "المسيرات باتت تعتمد على مبدأ السرب، أي ضرب ذات الهدف عدة مرات ومن قبل عدة مسيرات أو من خلال استهداف ذات المنطقة ولعدة أهداف".
والمسيرات الملغّمة (FPV) والتي يطلق عليها اصطلاحاً (الانتحارية)، تكتيك جديد لجأت إليه قوات النظام السوري وميليشيات إيران، لاستهداف مناطق عسكرية ومدنية في منطقة شمالي غربي سوريا.
و"الفرقة 25" و"الحرس الجمهوري" و"الفيلق الخامس"، أكثر من يَستخدم المسيّرات الملغّمة، وذلك بإشراف وتدريب روسي وإيراني، وفقاً لـ"أبو أمين"، الذي وضّح أنّ "المسيرات محلية الصنع، ويجري التعديل عليها محلياً باستجلاب قطع معيّنة من الصين، في مركز البحوث العلمية في حماة".